لم أشعر قط بالوطنية. لم أكن على دراية بمفهوم الهوية، أو الشعور بالفخر عند قولي إنني من ليبيا. لم يثير العلم أبدًا أي شعور بداخلي ولم أكن أعرف شيء عن السياسة أو المواطنة أو النضال. التضحية والدفاع من أجل الوطن كانت بالنسبة لي مجرد مشاهد درامية في أفلام الاكشن تفصلها عن واقعي شاشة التلفاز. حتى انقلبت الحياة رأساً على عقب بين ليلة وضحاها ولم تعد بلدي كما كانت أبداً ولم أعد أنا كما كنت. 17 فبراير حدث تاريخي غيّر مجرى حياتي وحياة البلد بأكمله، حدث زادني سناً وكلّفني الكثير، وغيري من أقراني بالمواطنة، ببلد ناضل فيه أبنائه مدى تاريخهم، متكاتفين لإعادة البلد لأهله، متفائلين بإقامة دولة تجمعهم وتحرص على مستقبلهم...ليُخذلوا مرة تلو الأخرى.
أعتقد أنني لا أتحدث عن نفسي فحسب بل عن الشباب الليبي الآخرين الذين نشأوا في أعقاب الثورة عندما أقول إن العيش في بلد يصارع من أجل مشروع الديمقراطية وحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية والتعايش مع عواقبها حقيقة مرهقة ولّدت جيل من المناضلين من مختلف مناحي الحياة. فبعد سنوات من فبراير أرى شباب نضج وتغيّر إثر هذا الحدث، شباب أدر أن الصمود والمثابرة والمرونة ليس فقط ضرورة بل وسيلة حياة حتمية لبناء مستقبل لأنفسهم على الرغم من التحديات العديدة التي نواجها، فللأسف لم يخلو بيت من الازمات ولم ينقص أحدنا خيبات الأمل ولكننا بالرغم من الانكسار لازلنا نحلم ونعمل لإحياء ليبيا الأمل وليس الألم، ليبيا العدالة وليس القمع، ليبيا الاستقرار وليس الخراب، ليبيا الملاذ وليس المفر، ليبيا كما هي خالدة في أذهاننا وقلوبنا حرَّة أبية متمسكين بها، نتهافت ونتكاتف من أجل أرضها الشريفة، مدركين أن اختلافاتنا لا تفسد لنا في الود قضية، فما أجمل تنوعنا الجغرافي من صحراء ساحرة وجبال شامخة وشواطئ واسعة وإرث ثقافي ثمين.
ففي ذكرى أحد أهم الأحداث في حياتي، ذكرى تغير مُر بحلاوته، ذكرى الإنجازات الصغيرة التي تطلبت تضحيات كبيرة وجهودًا جماعية وصمود لا يتزعزع، أرفض ألا أعتز بمشاركتي وإيماني بفبراير. ليس لأنني بعيد عن الواقع أو أصم عن طبول الظروف الحالية التي نعيشها، ولكن لأنني أرفض الاستسلام وأرفض النسيان. فلطالما حييت ذكرى أولئك الذين ضحوا بحياتهم وأولادهم وأريحيتهم تعيش خالدة في ذاكرتي. فكيف لنا أن ننسى محمد نبوس وتوفيق بن سعود وسامي الكوافي وسلوى بوقعيقيص ومهدي زيو وفريحة البرقاوي وحنان البرعصي وانتصار الحصيري رحمهم الله! وكيف لنا أن نتجاهل أكثر من 10,000 مفقود 200,000 نازح والتغاضي عن نضال أمتنا وقضيتنا؟ علينا أن نقف ونتفكّر ونراجع تجربتنا بكل مرارتها وجروحها ودروسها العصيبة لنتمكن من المضي قدماً.
فإذا كان يوم 17 فبراير قد فعل أي شيء، فقد غرس إحساسي ووعيي بهويتي الليبية لأول مرة في حياتي، وفخري بتنوع لهجاتنا وطقوسنا وعاداتنا وتقاليدنا المميزة والغنيّة في شمال البلاد وشرقها وغربها وجنوبها، مجبرةً إياي وغيري بالشعور بمسؤولية المواطنة من أجل عزة هذه الأرض وأولئك الذين يسمونها وطن. فاليوم أشعر بالوطنية بكامل كياني مستمرة بالتمني والامل والعمل على وطن يعيش، لأننا بالتأكيد لا نستحق أقل من ذلك!