ليس من المبالغة في شيء إن خلصنا إلى أن الدين المجتمعي أعظم تأثيراً على الأفراد من الشرائع الإلهية. فاليوم، ثمة إيمان عميق بثقافة وأفكار وسلوكيات اجتماعية معينة بات لها قطاع عريض من المؤمنين المتعصبين، ممن لا يحتملون مجرد التشكيك بها أو المجادلة في مدى صحتها وصلاحيتها، ولا يألون جهداً في التبشير بها والدفاع عنها بإيمان مطلق، كما لو أن تلك الأنماط الطارئة مقدسة ومنزهة عن الخطأ. ومن تلك الأنماط تقديس المجتمع والرهان على صوابية القوانين والأحكام التي يسنّها.
وبصرف النظر عن شرعية كيان "المجتمع" الذي بات يسترهب الناس، ويمنعهم من عيش حياة بعيدة عن التكلف والزيف. وبمعزل عما يمثله الدين في وعي الناس وسلوكهم، فالناس تضع آراء الناس أولاً، ومن ثم كل شيء آخر. وهذا شيء مرعب إذ أن ذلك الكيان الجمعي الذي نشترك كلّنا في تكوينه يمتلك اليوم سطوة عظيمة على الأفراد، بحيث أن كل فرد جزءاً منه يخشى آراء الآخرين، ما يمنحهم سلطاناً يمكنهم من سلب أفكاره وأمواله وربما حياته وكل شيء آخر. كما أن الأثمان الباهظة التي يدفعها المرء في سبيل الاحتفاظ بصك الانتماء للمجتمع تكلّفه في نهاية المطاف حريته الفكريّة، مضافاً إليها الضريبة الأخلاقية التي تتمخض عن ذلك الاستلاب. إذ لم يعد يهم ما هو الصواب، لأن ما يؤمن المجتمع بأنه صواب هو الصواب، كما أن عدة مفاهيم هامة مثل الكفاءة والنزاهة والحب والنجاح والأهمية والجمال وغيرها غدت رهينة بما تعنيه في الوعي الجمعي، أو وعي الكثرة الغالبة من أعضاء المجتمع المحيط.
وثمة مجازفة كبرى في الخضوع للوعي الجمعيّ، لأنه خاضع هو الآخر لفخ الضلال. فالأفكار التي يتحمس لها المجتمع وينافح عنها تنجو عادة من المساءلة التي تتعرض لها أفكار الأشخاص. فبحكم العادة، تكفر المجتمعات بالأفكار الفردية الجديدة، ليس لأنها ثورية أو تمثل خطراً على الأفكار البالية - وهي عادةً كذلك- بل لأنها نابعة من أفراد، فتقع بذلك أسيرة التمحيص والرفض حتى تثبت صحتها وصلاحيتها مع الزمن. ربما أيضاً تواجه مقصلة الفهم المتحيّز، وهو تسفيه الآراء المخالفة وجعلها تبدو وكأنها مغرضة وغير صالحة، وبالمقابل يتم تقدير الآراء المألوفة التي توافق هوى المجتمع مهما بلغ مقدار الشطط بها.
بعد عدد من السنين التي قضيتها شخصياً في محاولة فهم التغيرات الهائلة التي طرأت على بعض ممن كنت آنس منهم الرشد، أصل لاقتناع تام بأن الدين المجتمعي - أقصد به عبادة المجتمع وأنبيائه المزيفين- له سلطة أكبر على عقول هؤلاء الناس من الدين، والله، ومن كل سلطة أخرى. حتى أن الصلاة وكافة أشكال العبادات غدت مجرد طقوس دينية، بحيث أنها لم تعد تنهى عن الانغماس في الخطايا الصغرى والكبرى، بل ربما تُعَدّ مجرد غطاء له. وأكثر من ذلك، غدت شكلاً من أشكال الوجاهة الاجتماعية، أو أداة لتعزيز المكانة وسط كثرة غالبة لا ترى في الدين منظومة أخلاق، بل طقوس وشعارات.
قصارى القول، أن ثمة مجازفة عظيمة في الكفر بالدين المجتمعي، لأن ثمة دائماً خطر النبذ والطرد من رحمة المجتمع. لكن من المهم أن نعي كأفراد حقيقة أن رقابة المجتمع غير ذات معنى، فمن الخطر ألا يمتلك الأفراد صوتاً داخلياً يقوم مقام الرقابة الذاتية، المستلهمة من منظومة أخلا قيّة متّزنة. ومن نافلة القول إن رقابة المجتمع لا يُعوّل عليها، لأنها مضلّلة وغير نزيهة وهي فوق ذلك خاضعة لأهواء وآراء متبدلة.
والمؤمن بالدين المجتمعي هو بالمحصلة ضالّ، ومطاردته لسراب الفردوس المجتمعي لن تنتهي سوى بالثبور، لأن صحيفته في يد من ( ياكل الغلة وايسب الملة).