يرجع تواجد مسارح الدمى بالوطن العربي إلى عصر الخلافة العباسية، أما في أنحاء أخرى من العالم فترجع إلى زمن ما قلب الميلاد يعود أصله إلى ثقافات آسيوية قديمة.
تنقل المسرح في عدة بلدان بالمنطقة ولكن استثمر به بكثرة في تونس ذات التجربة الغزيرة، القاهرة صاحبة التجارب الضخمة أشهرها مسرح القاهرة للعرائس (الليلة الكبيرة التي تحتفي بتفاصيل الاحتفال الشعبي بمناسبة المولد النبوي)، لبنان وفلسطين من بلاد الشام، الموصل في العراق موطن ابن دانيال الموصلي الذي يعتبر أول من برع وطوّر مسرح خيال الظل بالتاريخ العربي أيام العباسيين.
أما في البلدان الأخرى التي لم تمتلك مسرح الدمى، تواجد فيها ظاهرة الحكواتي مثل ليبيا.
حاورنا اليوم محمود الحوراني مدير المؤسسة العربية لمسرح الدمى، وأحد المصممين الأوائل لبرنامج للعائلات وبس من ناحية ه وية بيت العائلة والدمى وشخصياتها، الذي حدثنا بشغف عن بداياته منذ الصغر في هذا المجال الفني وبداياته كهاوِ في أزقة مدينة الخليل الفلسطينية:
ليس من المتعارف عليه أن ينشغل المراهقون بالدمى، كيف دخلت هذا العالم في صغرك؟
كنت مراهقاً في التسعينات، وكانت البلاد تمر بأوقات عصيبة والمدارس مغلقة والشوارع مهدمة فلم يكن هناك أفق فقضيت جلّ وقتي على عتبات سلالم البيت أقصقص البزر وأدخن السجاير. لطالما كان عندي ميول فنية منذ صغري وكنت آخذ نفسي بجدية عند تقليدي للمثلين والمغنيين في أروقة البيت أمام عائلتي.
كان أخي الأكبر وقتها منخرط في عالم الفن التشكيلي ورافقته عدة مرات إلى القدس، حيث كان يجتمع أصحابه الفنانين "الكول من محتسي النسكافيه". هناك تعرفت على صديق قديم للعائلة وصانع دمى في مسرح الحكواتي في مدينة القدس. كان واقع القدس صعب أيضاً، ولكن تواجد فيه المتنفس فاستمعت بالغناء والطرب والفن فتعرفت على عالم مغايرا لما اعتدته في الخليل. كنت أساعده فيعمله مما فتح لي باب كبير غيّر مجرى حياتي للأبد وأنقذني من أن تكون حياتي مملة وأقل من عادية، ولهذا أشعر بالامتنان من كل قلبي فوضعتني هذه الصدفة المحضة على أول الطريق وأضافت لحياتي الكثير من المعرفة وا لجمال.
عندما تنشأ في منطقة حرب، لا يمكنك تجاهل الفرص فهي ضئيلة في خضم واقع مرير تعايشه يومياً، فتمسكك. بها له أن يصنع كل الفرق! أصبحت الدمية ملجأي وأداتي لأعبّر عن عقدي ومشاكلي وهمومي كطفل وكمراهق عاش في منطقة حرب.
أين كانت نقطة البداية لعروض المسرح الخاصة بك؟
تعلمت المسرح في الخليل وبدأت مشواري مع مجموعة هواة مسرح دمى في عمر الثامنة عشر عندما بادرنا بالتواصل مع وكالة الغوث الدولية (الأونروا) في أوائل التسعينات كمبادرة فردية منا، وتفاجأنا بترحيبهم واحتضانهم ودعمهم لفريقنا. حيث أقمنا عروضاً مسرحية صغيرة لطلاب المدارس ولعدة سنوات تجولنا في أنحاء فلسطين لتقديم عروض في الحارات والشوارع ورياض الأطفال والقرى.
قدمنا عروضاً أمام جماهير لم تعتد على مشاهدة المسرح والفنون بشكل عام، فلم تكن مدارسنا تتضمن دروس فن ودراما وهذا النوع من "الرفاهية والدلال". كانت العروض بمثابة هواءً منعشاً لهذه الشريحة عبر الدمى والحكايات التي لم تكن بالضرورة مسيسة، فحياتنا كانت مشبعة بالسياسة بكل تفاصيلها.
قدمنا قصصاً ثقافية وأدبية تشجع على القراءة، وحب الآخر وتقبله وما إلى ذلك من قيم مهمة للنجاة والعيش في منطقة أنهكتها الدماء والحروب، فتعلموا منا وتعلمنا منهم الكثير.
هل تلقيت تعليم أكاديمي مختص بالمسرح؟
كان من الضروري أن أنتقل من مرحلة الهواية والممارسة الفطرية إلى دراسة هذا الفن العريق. انتقلت إلى لندن في أوائل الألفينيات لد راسة المسرح والماجستير theatre advanced practice puppeteer لدراسة مسرح الدمى العربي ومسرح الدمى بشكل عام لسنوات طويلة.
تعلمت الكثير وخضعت مخيلتي لكثير من الاستفزاز والتحدي، وتغيرت رؤيتي للمسرح من خلال احتكاكي بتجارب أناس مختلفة والقراءات العالمية التي درسناها بالجامعة، وبطبيعة الحال تشكلت رؤية مختلفة لديّ في كيفية تقديم المسرح.
ومن هنا انطلقت لعمل عروض لجمهور الكبار هذه المرة، وليس بالضرورة باستخدام الدمى فقط، فدمجنا الدمى مع الحكواتي والتمثيل بشكله الكلاسيكي والتمثيل الإيمائي (البانتومايم) والسيرك ايضاً.
أخرجنا الدمى من الصندوق المعتاد التي خبأناها به، وجسدناها على المسرح بشكل واثق أكثر لتقدم ما هو أوسع من تجارب القصص التقليدية مثل علي بابا وسندريلا وألف ليلة وليلة وما إلى ذلك من المفاهيم التقليدية بالوطن العربي.
لا شك أن التجربة نضجت، مما سنح لنا بإتمام شراكات مع راقصين وحكواتيين وسينمائيين فأخذت الدمية توجهاً مغايراً خارج الصندوق بالمعنيين الحرفيّ والمجازيّ.
تحوّلت الدمية من كونها عروسة فقط، فقد تخطينا مرحلة صنع أنف وأذنين وشفتين مثاليتين، ودخلت السينما لتحكي عن قضايا معاصرة تمسنا جميعاً مثل حلقات للعائلات وبس، حيث تخاطب الدمية الآن جوانب اجتماعية في تفاصيل حيواتنا اليومية تصلح حتى للبالغين من عمر أهالينا!
يمكنك تتبّع تحوّل التجربة جذرياً عند استخدام الدمية كأداة لمعالجة قضايا مختلفة في كافة مجالات ومناحي الحياة فبثت فيها الروح للتحرك خارج الكوادر والإطارات التي عهدناها.
قبل عصر الإنترنت والفيسبوك وحتى السينما والتلفزيون كانت الناس في المنطقة والعالم أجمع شرقاً وغرباً تتسلى بشيء وحيد وهو الحكواتي والعرائس (الماريونيت والظل والخيال) التي عرضت للكبار في المقاهي وصالات العرض. مع الأسف عقب قدوم التكنولوجيا ودخول التلفاز للبيوت، تم إهمال مسرح الدمى وركنه في الزاوية، تماماً مثلما يحدث للراديو الذي تقلّ شعبيته بشكل يومي.
لحسن الحظ، يسترجع مسرح الدمى جاذبيته بشكل تدريجي بل ويسجل حضوراً في حياة الناس. فأثبت قابليته للتأقلم مع التغيرات ومرونته للاندماج مع الفنون الحديثة، فيتم دمجه الآن بالسينما والأغاني والبرامج وغيرها، وأكبر مثالين على ذلك أبلة فاهيتا في مصر وSpitting image في إنجلترا.
ماذا تلى سنوات الدراسة؟ أخبرنا عن أهمية إنشاء المؤسسة العربية لمسرح الدمى
كانت العودة للمنطقة العربية حتمية بالنسبة لي لوضع المعرفة التي حصدتها في الخارج فيما يفيد ماضي وحاضر هذا الفن العريق والمهمل في بلادنا. بادرت مجموعة فنانين من شباب وشابات من مصر ولبنان والأردن والسودان وتونس لتكوين جسم يهتم بتاريخ ومستقبل مسرح الدمى العربي واحترافه فأنشأنا المؤسسة العربية لمسرح الدمى في لب نان عام 2008 وسجلناها مؤخراً في بريطانيا.
كان التوجه المبدئي لعملنا أن نشيّد مدرسة عربية تدرّس هذا الفن باحتراف من ناحية التصنيع والتحريك والفلسفة من ورائه وبناء ديكور وتطوير مفهوم مسرح الدمى من ألف ليلة وليلة وأخذه لمساحات أخرى أوسع خارج القالب المعتاد.
بدأنا بعمل إقامات فنية في بيروت بدءاً من 2010 لفنانين عرب ممن يودون احتراف هذه المهارات وامتهان هذه الحرفة الفنية وإعطائهم دورة مكثفة ومعمّقة لمدة شهر مع مدرسين ومختصين من جميع أنحاء العالم لمدة شهر في بيروت على مدار 7 سنوات متواصلة. تكلّل نجاح هذا المشروع عندما استطعنا إلهام بعض الطلاب للمباشرة ببدء شركات مسرح مختصة بالمسرح في اليمن الأردن وتونس ومصر.
إحدى الشراكات التي نفخر بها كانت العمل مع مؤسسة MAG التي تختص بنزع الألغام من مناطق الحرب. فأقمنا عروض جميلة ومؤثرة بغرض توعية الأطفال والأهل من مخاطر وآلام الألغام في كل من لبنان وكردستان العراق ونيجيريا.
هل عدت للعمل مع المخيمات بعد تجربتك الأولى في فلسطين؟
بالتأكيد، عملنا مع المخيمات الفلسطينية بلبنان في عكّار مع السوريين والعراقيين عند نزوح بعضهم للبنان ومع وزارة الثقافة اللبنانية على مشروع ضخم يتجوّل بالمكتبات العامة اللبنانية.
أي التجارب هي الأقرب لقلبك؟
عروض التجوال في الشوارع وورشات العمل أمام جمهورنا من أهل المخيم ومدارس الأونروا وأولئك العطشى لرؤية ما هو جديد وبحاجة لهواء منعش كانت الأشهى والأمتع والأغنى من بين كل التجارب. أتمنى الرجوع مجدداً للعمل معهم، لأنها تزودنا بطاقة إيجابية جداً ويرجع فينا روح الأمل والتجريب والإبداع الذي نبرع فيه حقاً. فالعمل مع المؤسسة يقتصر بشكل كبير على الجانب الإداري المليء بالرتابة والتعب أحياناً.
بالمقابل لا أمانع العمل مع أيّ من القطاعات المختلفة، حيث أفضّل الأداء دائماً أمام أيما كان فالأداء هو الأعز على قلب أي فنان ويأتي بالمقام الأول خاصة عندما ترى وقعه عندما يلمس قلوب الناس.
ما أهمية مشروع أرشفة تار يخ مسرح الدمى العربي ومتى سيرى النور؟
منذ ثلاث سنوات مضت، شعرنا أن هناك حاجة ماسة للقيام بأرشفة تاريخ المسرح، فعند زيارة بعض المسارح في بلدان عدة (العراق ومصر وفلسطين ولبنان وسوريا وتونس والجزائر وليبيا) كان حال الأرشيف المهمل يكسر القلب، فوجدنا فيديوهات متآكلة من الرطوبة وبوسترات تغطيها الغبار...كان هناك الكثير من الجمال المنسيّ في ركن بعيد عن الأنظار.
ارتأينا أنه حان الوقت لأرشفة هذه المواد على الإنترنت بما أننا في عصر الديجتال. حرصنا على التواصل مع أناس ب حوزتها كتب ووثائق وشهادات وكل ما يختص بتاريخ وسيرة الدمى حتى يتسنى لنا جمعها وعرضها على منصة افتراضية. سيتم إطلاق الموقع في شهر آب/أغسطس لتكون متوفرة في متناول الجميع للاطلاع على التجارب المتنوعة، الركيكة منها والجيدة، باللغتين العربية والإنجليزية، ويتيح للمستخدم التصفح المجاني لمحتوى مرئي تفاعليّ غير أكاديمي وسيعنى بالفيلم القديم VHS والصور والبوسترات والمقابلات.
تستطيع معرفة الكثير عن حال البلاد في أي عصر زمني من خلال الأرشيف، فعلى سبيل المثال في تونس في زمن الديكتاتور بن علي كان هناك نكهة مختلفة فيمكنك إحساس الخوف في المواد والإلقاء، بينما تلاحظ تحرّر المسرح فيما بعد بن علي. لا يلزم أن تكون فيلسوفاً لتلاحظ الفرق في مسيرة هذا الفن باختلاف العصور فيمكنك بسهولة تتبّع حكاية الناس والمواطن عبر المسرح...
ما الفرق بين الإنتاج المسرحي والتلفزيوني؟
يتطلب تحضير مقطع كليب من 5 دقائق عمل متواصل على مدار شهر كما الحال في المسرح الذي يتطلب شهوراً من العمل تتوّج بعرض نهائي تقدمه مرات عدّة.
أما بإنتاج المسلسلات التلفزيونية فهي مغايرة تماماً، حيث عليك إضافة شيء جديد في كل حلقة وبشكل متواصل كل أسبوع بشكل متكرر ومتغير ليتناسب مع كل حلقة.
بالإضافة إلى عنصر الإضاءة الذي يشكل عاملاً مهماً في الصورة التي يتلقاها المشاهد، فيختلف بشكل جذري من إضاءة المسرح! كما تختل تقنية تحريك الدمى الضخمة التي تكون آدميّ، التعامل معها أمام كادر الكاميرا يختلف كلياً عن تحريكها على المسرح.
تعلمنا الكثير من هذه التجربة وممتنين لخوضها واكتساب مهارات جديدة مع الفريق.
نتأمل أن يعجب الجمهور بما قدمناه بالمسلسل فقبل عرض الحلقة الأولى كان فريقنا مرتبك للغاية تماماً كما كانت ترتجف أرجلنا قبل رفع ستارة المسرح.