يتكلم الناس عن أهداف ثورة فبراير، ما قدمته من امتيازات -إن وجدت- وما قدمته من سلبيات، قوائم طويلة وأرقام واحصائيات لقتلى وجرحى ومفقودين، نازحون ومهجرون قسريًا، خراب البنى التحتية، ومجموع المباني المحطمة والمؤسسات المنهارة، ومستقبل الشباب الذي يصبح مع مرور الوقت أشد قتامة.
يقف المذيع السياسي على الشاشة بربطة عنقه وبدلته العصرية ليقوم بالدفاع عن الثورة بوصفها حدثًا غيّر وجه الحياة في ليبيا، يقوم بسرد احصائيات الشهداء والجرحى بوصفهم علامة انتصار يجب أن نستمد منها قوتنا وثباتنا على مبادئنا. إحصائيات يتم تداولها بطريقة جامدة في شكل حسابات رياضية، حسابات لا يدخل ضمنها العامل النفسي، بل ولا يتم التطرق إليه بصورة مباشرة. فالليبيون لا يفكرون في ظل الحروب المتعاقبة في تفعيل برامج للدعم النفسي تبدأ أولًا بالاعتراف وجبر الضرر، وتنتهي بالإيمان أن البلاد تحتاج إلى هوية وطنية جامعة كي تبدأ في الخروج رسميًا من حالة الصدمة الجماعية التي تصبح جلية مع مرور الوقت.
علم النفس والصدمة الجماعية
تعتبر الصدمة الجماعية (Collective trauma) في علم النفس بندًا نفسيًا تتم دراسته والتطرق إليه بصورة مباشرة في حالات الأوبئة والحروب والمجاعات وغير ذلك، وتقول المعالجة النفسية آية الديفار مؤسسة فريق الدعم النفسي والاستشارات القانونية أن "الصدمات النفسية عمومًا سواء أكانت فردية أم جماعية تحدث نتيجة التعرض لحدث أو مجموعة من الأحداث غير المتوقعة، غير أنها في الحالة الجماعية تظل مخزنة في ذهن الشعوب لفترات متعاقبة، وهو ما حدث في ليبيا لمدة عشر سنوات كاملة."
وتتضح أعراض الصدمة الجماعية بشكل جليّ في نفوس أولئك الذين تأثّروا بالأحداث بشكل مباشر، أو تعاطفوا معها، وفشلوا في تغيير واقعها، حيث تمتاز الصدمات الجماعية بكونها تعطي للشعوب فرصة للتفكير في أزماتٍ وجوديةٍ لا يفكر المرء بها عادة في الأوقات المستقرة، حيث تشُلُّ الصدمة الجماعية قدرة الإنسان على إيجاد معنى لحياته، ما يجعله في حالة تخبط مستمرة.
وبالنظر إلى ما حدث في ليبيا خلال عقد من الزمان فالصدمة الجماعي ة تصبح واقعًا ملموسًا، فالنزوح من مناطق الاشتباك (آخرها طرابلس 2019) والعيش تحت تأثير الخوف من المجهول، ورؤية الناس لأنفسهم كموضع للتهديد الدائم، كلها عوامل تجتاح فئات كبيرة من المجتمع الليبي.
فتهجير مدينة تاورغاء مثلًا عام 2011 كان حدثًا صادمًا، كما أن بروز داعش على الساحة الليبية (سرت، درنة، بنغازي) يشكّل أيضًا صدمة جماعية تتقاطع مع شكوك محورية حول جوهر الدين ومن يمثله. هذا بالإضافة إلى ما حدث في حرب بنغازي شرقاً التي امتدت لسنوات، وأيضًا ما حدث في مأساة تهجير "مزدة" جنوبًا، وهو ما يجعلنا نفكر أن هناك صدمات ربما عاشتها مدن بشكل مفصول عن مدن أخرى.
وتقول آية الديفار هنا: "إن المناطق والمدن في ليبيا عاشت صدمات نفسية مشتركة، حتى وإن بدا أن معاناة بعض المدن أكبر من الأخرى بصورة مباشرة، لأن الأحداث الدامية والمهدّدة للأمان النفسي تكوّن ذاكرةً شعبيةً مشتركة."
وتضيف: "إن التعاطي مع الصدمة معتمد أساسًا على مبدأ الفروق الفردية، حيث الصلابة النفسية تعتبر عاملًا متغيرًا من فرد إلى آخر بناء على مدى القابلية، فحين يسمع البعض صوت انفجار ما، فإن استجابته تكون بالصراخ أو الهرب، بينما يتصرف أشخاص آخرون بلا مبالاة ظاهريًا، إلا أنهم في الحقيقة ربما يعانون من اضطرابات النوم والأرق، وربما يعانون أيضًا من مشاكل فسيولوجية متعددة."
علاج وشهادات فردية
تقول صديقتي: "كنت أشاهد الحرب عبر نافذة الشقة، كانت النافذة تشبه الشاشة في خيالي، وكنت أرى من خلالها البنايات وهي تسقط."
هذه الشهادة تبدو للوهلة الأولى هادئة، وربما شاعرية غير أنها في الحقيقة تجلب الأسى. فهذه الجُمل توضح حجم الدمار النفسي الذي تخلّفه الحروب، ما الذي تقوم بتخزينه بداخلنا؟ وما الذي يجعلنا نستحضر تلك الفترات بنوع من الألم؟ وكم تبدو النجاة من هذه الذكرى أمرًا مستحيلًا!
في الحقيقة إن هذه الشهادة توازيها شهادة أخرى عن رجال في الحرب شاهدوا رفاقهم يموتون، أو ربما يتقطّعون أشلاءً، العجز عن حماية من نحب، ومشاهدة الدماء تسيل، والبنايات تسقط، ومن هنا بالضبط يبدأ تعاطينا مع الصدمة. ففي حين يظل البعض حبيس ي حالة إنكار، كونهم غير مسؤولين عما حدث، أو أن ما حدث هو أمر مبرر، يكون هناك فئات أخرى ومدن بكاملها تتوشح بشكل مستمر بثوب الضحية.
وتقول آية الديفار عن ضرورة تلافي هذا الأمر: "الهوية الوطنية، وتفاعل المدن مع بعضها، والتعاطف والتكاتف يمكنها أن تحل كثيرًا من المشكلات، ويمكنها إخراج الليبيين من حالة التشظي النفسي، وعقد الذنب، والمظلومية على حدٍ سواء." وتضيف أيضًا: "التوعية النفسية والدعم النفسي والاجتماعي بتوفير مراكز وعيادات عامة هو مشروع يجب على الدولة أن تدعمه."
حين قتلت الحرب شبابنا
دائمًا ما نكرر مازحين، ولكن مملوئين بالأسى أن "زهرة شبابنا أصبحت صبّارًا"، نقول ذلك بسبب تقاطع سنين شبابنا، التي من المفترض أن نستمتع بها، مع الحروب وموجات النزوح وحالة عدم الاستقرار السياسي.
وبحسب المعالجة النفسية آية الديفار: "إن أغلب الحالات التي تطلب مساعدة نفسية هي غالبًا من فئة الشباب بين 20-34 سنة." وتضيف أيضًا: "العلاج النفسي في مجموعات (Group Therapy) هو حل جيد كي نتلافى وصمة العار التي تلحق بأولئك الذين يطلبون استشارات أو جلسات علاجية، فوجود الفرد داخل مجموعة غالبًا ما يعطيه إحساسًا بالتكاتف والثقة."
ومع ذلك، ورغم كل الجهود المبذولة من قبل أطباء ومعالجين نفسيين إلا أن نسب الإقبال على زيارة العيادات النفسية لا زال ضعيفًا، كما أن مصطلح "الصدمة الجماعية" لم يتم تثبيته داخل الوسط الطبي في ليبيا لوصف الأحداث الدموية المتعاقبة التي مررنا بها.
فالحديث عن مصالحة وطنية مثلًا، دون النظر فيما قاسته بعض المدن وبعض الفئات والأقليات في المجتمع من منظور نفسي، لا يبدو منطقيًا، فلِجبر الضرر يجب الاعتراف بوجود الضرر، وبالمسؤولين عنه أيضًا.