إذن فقد تم إغلاق باب الترشح لانتخابات الرئاسة، وبعدد أوليّ قارب المائة مترشّح (98 تحديداً، قبل استبعاد العشرات ممن لم يستوفوا الشروط)، ليُعلَن بَدء المرحلة النهائية لعملية سياسية، يُتوقع لها أن تكون مفصلية. فإما سلام يُنهي معه الحروب والنزاعات، ويفتح صفحة جديدة في تاريخ البلاد، تتوحد فيها المؤسسات، ويُصار إلى تدشين عملية سياسية وفق قاعدة سليمة؛ وإما أن يكون هذا الاستحقاق، مناسبة لعودة النزاع والانقسام بأشد مما كان عليه. لا سيما في ظل مناخ الاستقطاب الحاد، الذي يُهيمن على المشهد الليبي منذ سنوات.
ورغم حالة اللّايقين هذه التي تسود عند كثير من الليبيين، الذين ينتظرون واقعا أفضل يعقب الانتخابات، إلا أن التأكيد الدولي على ضرورة إجرائها في موعدها، والتشديد على احترام نتائجها، يشكل بعض الاطمئنان لمجتمع متعب، يتوق إلى حياة طبيعية طال انتظارها، قوامها استقرار سياسي، وازدهار اقتصادي.
قُبيل الانتخابات:
كان موقف الكثير من الفاعلين في المشهد السياسي ضبابيًا قُبيل فتح باب الترشح. فهناك من بّين اعتراضه على قانون الانتخاب، وآخرون أرادوا تثبيت قاعدة دستورية، تمثّل أرضية تُسنّ على أساسها مواعيد الاستحقاقين الانتخابيْن القادميْن: الرئاسية والنيابية.
غير هؤلاء من كان مسؤولاً في حكومة الوحدة الوطنية الانتقالية، التي وقّع أعضاؤها تعهداً بعدم تولي أو الترشح لمنصب سياسي خلال انتخابات 24 ديسمبر. وكان هذا التعهد محل جدلٍ حول كونه إلزاماً قانونيًا، أو محض وعد أخلاقي. التحركات النشطة لرئيس الوزراء، زادت من حدة هذا الجدل، وخلقت تكهنات حول نواياه في الترشح، وبعد تلميحات ومشاغبات وتصريحات، قطع الرجل الشك باليقين، وقدّم أوراقه للمفوضية العليا للانتخابات، أسوة بزملاءٍ سابقين له، ولاحقين.
عشق سلطوي لا ينتهي!
ليس رئيس الوزراء الحالي وحده من وجد في السلطة إغراءً يسحر الألباب، ويدفع إلى التشبث بها. فكثيرون غيره ممن تولوا مناصب قيادية خلال مراحل تاريخية مختلفة، ما يزالون يجدون في أنفسهم القدرة على "خدمة" الوطن وأهله!.
هؤلاء من تنطبق عليهم عبارة "كان هنا، فأصبح هناك"، كتعبير يصف حالة إعادة تدوير الأشخاص، واستعمالهم في أكثر من مكان، وفي فترات زمنية متباينة.
نجد هذا في أربع شخصيات ترأست السلطة التشريعية أو التنفيذية: علي زيدان، نوري أبو سهمين، خليفة الغويل، عمر الحاسي. بالإضافة بالطبع، لرئيس مجلس النواب، ذو السبعة والسبعين ربيعًا، عقيلة صالح. وغير هؤلاء، عدد غير قليل من الوزراء ووكلاء الوزراء، وأصحاب مناصب إدارية رفيعة.
وغزل لغوي!
كانت لغة الخطاب عند تقديم المرشحين لأوراقهم؛ جديرة بالملاحظة. فعلى اختلاف نوعيتها، من الكلمات المقتضبة، إلى الخطب الطويلة، ومن الهمهات المتلعثمة، إلى البيانات الصادحة؛ إلا أنها اشتركت جميعاً في "مغازلة" الشعب الليبي، الذي اكتَشف فجأة أنه "عظيم" و"كريم" و"حبيب". وأنه مسكين يُعاني، ويحتاج إلى من "يخدمه" ويعمل على توفير حياة كريمة تليق به.
هذا الشعب نفسه، هو من كان يئن تحت وطأة هؤلاء، ممن تعاقبوا على حكمه، وتولوا النطق باسمه، وادّعوا رعاية مصالحه، في وقتٍ كانت الأوضاع المعيشية تقول شيئا آخر: اقتصاد منهار، وضع أمني متعثر، فساد مستشر تصدرت فيه البلاد القوائم العالمية، نزاعات وحروب دامية، نتج عنها جمود العملية السياسية، وتشظّي مؤسسات الدولة وتنازعها.
تزكيات تزكيات!
لكن مهلاً! هذه الصورة القاتمة لنوعية المرشحين، ولإرث بعضهم السياسي الذي سيُذكَـر مستقبلًا بوصفه سببًا في عدد من مآسي البلاد في هذه الحقبة التاريخية؛ لا يعني أن هؤلاء قد هبطوا إلى ليبيا من كوكب آخر، أو أنهم نبْت عشوائي ظهر فجأة في تربتنا الليبية الطيّبة المباركة.
ما يقوله "كرم" التزكيات التي حصلت عليها بعض الشخصيات التي اعتُبرت دومًا غير مقبولة: دموية/فاسدة/غير مؤهلة ..الخ. لا يدل إلا على أن هؤلاء المرشحين -بل جميع المتواجدين في المشهد السياسي- ما هم إلا نِتاج لهذا المجتمع، ولنوعية التوازنات التي تديره، ولنمط التفكير الذي يحكم سيره ويحدد انحيازاته. الأمر الذي يصح فيه القول الشهير: "كما تكونوا يُولّ عليكم". أو بلغة أخرى: لا يمكن للمُخرَجات، أن تُناقض المُدخَلات.
مضرب المَثل
قد يبدو من المُبكر الحديث عن مآلات ما تُسفر عنه الانتخابات، وما ستُشكله من واقع جديد، لكن وبشيء من الأسى، لا بد من القول أنّ أصداء الكاريكاتيرية، التي رافقت "سهرية" عُرسنا الانتخابي، في شقّه الرئاسي، والتي تمثلت في شخوص وأعمار المرشحين، ونوع لغة الخطاب، مع "إطلالاتهم" التي خاطبوا بها "شعبهم الع ظيم"، ربما ستُجاوِز ليبيا، إلى الدول المجاورة، المبتلاة هي الأخرى بثنائية الاستبداد أو الفوضى. بحيث ستغدو قيمة نبيلة، ومفهوم عظيم، هو "حكم الشعب=الديمقراطية"، سُبّة أو تهمة، يُرمى بها كل ناشط أو مفكر، نادى أو نظّر يوما، بضرورة الحكم الرشيد، القائم على دولة المؤسسات، وحرية الرأي والتعبير.. وبالطبع، التداول السلمي على السلطة.
لكنّ الفارق، أن التهمة هذه المرة، ربما، لن تُوجّه من قبل السلطة وأدواتها من مرتزقة الفكر والإعلام؛ وإنما ستصدر عن قطاعات شعبية واسعة، صادقة في اتهامها، ترى في تجربة ليبيا فضيحة مخجلة، وكابوسًا مرعبًا، لا تودّ تكراره في أوطانها، وهم الذين يعلمون جيّدا طبيعة مجتمعاتهم، وتعقيداتها.
وهكذا قد تصبح ليبيا -مرة أخرى- عبرةً على "فظاعة" ديمقراطية ممسوخة، مثلما كانت قبلاً، مثالاً على مأساوية ديكتاتورية مجنونة.. كان الشعب فيها "يحكم نفسه بنفسه".