الفن حاجةٌ ماسة، وليس ترفًا
هل تفكرت يومًا بالفن، على أنه حاجة ماسة؟ "ينفض عن الروح غبار الحياة اليومية" كما قالها بيكاسو مرةً. يعيد عجن الأيام ليمحو عن وجهها الرتابة..يؤجج مخيلاتنا فتُمحى عن العالم كل تشوهات وقائعه الأليمة.. هل نظرت يومًا للفن بوصفه وسيلةً رئيسةً تُغذي عطشنا للجمال؟
تمنح أعيننا بُعداً جديداً للنظر، بُعدًا مفتوحًا على كُل احتمالات الدهشة!
الفنُ لغة، يمكنها أن تعيد صوغ سرديات التاريخ، لتجعله يبدو أكثر لُطفًا وقربًا منا نحن أبناء الحاضر. هو كاهلٌ، إن جاز المجاز...كاهلٌ من شأنه أن يُحمّل بالقضايا، والمبادئ. تخيل معي أن تجد هذا الفن متجسدًا بكل ما يحتمله من معنى في مكان واحد! أين قد تتساءل؟
ومن هنا تبدأ الحكاية...
شفاء سالم، فنانةٌ هزت ركود الهوية
في أواخر شهر أكتوبر الماضي تلقيت دعوة لحضور المعرض الفردي الأول للفنانة والمعمارية شفاء سالم، التي سبق وأن أدهشتني بشاعرية فنها، بكل تفاصيله المُتقنة.
انطلقت مدفوعةً بالفضول لأرى ما الذي دفع الفنانة لتسمية المعرض بأنا ليبيا، رحت أحيك في مخيلتي تصورات مختلفة للثيمة الطاغية على اللوحات المعروضة، لابُد أنني سأرى كثيرًا من الأزياء التراثية الليبية، والألوان الدافئة الترابية، وربما قليلاً من الصحراء قلت لنفسي.. لكني تخليت عن تصوراتي عند أول لوحة خطفت بصري وأدركت حينها أني بصدد الانغماس في بُعد أعمق للهوية الليبية.
الحقيقة أن شفاء فنانة شجاعة، اختارت أن تحرك ركود الهوية الوطنية الليبية، محتفيةً بالتراث في ظل حالة فصامٍ جمعية يعيشها مجتمعنا المتأرجح بين الماضي والحاضر دون أن يقدر على الانتماء، تاركةً خلف ظهرها المفهوم المُسطح للهوية، الذي نتداوله عنها مُتشبثين بحنين زائف لتاريخ مُشوه لا يُشبه ليبيا في شيء!
وفي أروقة مركز براح انتصبت لوحاتها لتسرد الحكاية، بدايةً من رقصة الكاسكا التي رحب عبرها المحاربون القدامى بالموت ببسالة، مرورًا بقبائل التحنو، ومتحف أكاكوس المفتوح، وصولاً لزهر الأساطير الشافي "السيلفيوم".. وفي فعل يشبه التأريخ إلى حدٍ كبير،اختارت شفاء أن تعيد عبر لوحاتها صوغ حكاية ليبيا لتُخبر حضور معرضها المذهولين بأن بلد الحضارة والاساطير الشاهقة بهويته الأصيلة مازال قابلاً للإحياء فينا.
فن، ودهشةٌ، وإتقان
في ملامح يمكنك أن ترى فيها الألم والشقاء، الكبرياء الأنثوي، وأن تتجرع مرارة الفقد أيضًا، تجاوزت الفنانة حدود الإبداع مُتقنةً فن تصوير القلق الإنساني للعيش بأبهى حالات الجمال المُمكنة تاركةً إياي وكل الحاضرين نتنقل بين ردهات معرضها ذهابًا وإيابًا دون سأم، ودون أن يبهت في أعيننا بريق الدهشة، متفرسين في قدرة شفاء المُتقنة على الخلق والإبداع، سارحين مع حكاي ا هويتنا التي نراها أمامنا حيّة لأول مرة.