عندما غادرت ليبيا لأول مرة، حيث ولدت وترعرعت، في عام 2013 كنت دائمًا ما أعتزم العودة في المستقبل القريب. كنت أتخيل أنه عند الانتهاء من دراستي في الخارج، سأعود لتحقيق حلم المغتربين بإعادة بناء مسقط رأسي.
لم يكن الانتقال إلى الخارج يخلو من التحديات، فلقد وجدت أنه من الصعب للغاية الاعتياد على الشعور بأنك دخيل، غير منتمٍ ومطالب باستمرار بشرح وتبرير هويتك. ذكريات طفولتي وأدق تفاصيل حياتي اليومية في ليبيا كانت تزعجني باستمرار، ولم تتقلص الذاكرة ولم يتناقص الشوق والحنين بمرور الوقت. بدلاً من ذلك، بدا أن الحنين ينمو كل يوم، لإيقاظ ذكريات أكثر وضوحًا من تفاصيل الوطن الصغيرة.
بعد فترة وجيزة من انتقالي إلى أوروبا قررت الذهاب للتزلج؛ كنت قد ركبت لتوي على مصعد التزلج، وبينما كنت أحدّق في الثلج البارد بالأسفل، أدركت كيف كان كل شيء غريبًا وغير مريح. ذكرى صباح الجمعة في منزل جدي وهو يأكل البيض المخفوق مع الهريسة ويشرب الشاي في الحرارة الحارقة الجافة جلب معها طعنة مفاجئة من الحنين إلى الوطن...حادة ومفاجئة لدرجة أنها ملأت عيني بالدموع. كانت لحظات كهذه تمر خلال يومي عند قيامي ببعض المهمات الاعتيادية أو ربما أثناء جلوسي في مقهى ما، عندما بدا لي أن الهواء يحمل عبق الذكريات تأثيراً. تذكرت رحلات الشاطئ والنزهات مع أبناء عمومتي التي ملأت كل شق في أجسادنا بالملح والرمل والأعشاب البحرية بينما هرعنا إلى المنزل وتنازعنا على من سيستحم أولاً. تذكرت ليالي الصيف المنعشة التي قضيتها في الشكوى من لدغات البعوض في غرفة المعيشة وكيف يفتح الهواء البارد النوافذ ليجلب معه الرائحة السامة للمجاري من الشاطئ المحاذي.
كل ذكرى غير معلنة للعائلة والأصدقاء ونعيم الماضي جلبت معها إحساسًا بالخسارة والحنين لا يمكنني تعويضهما، لكن في الوقت نفسه إحساسًا بالراحة والأمان والأمل في العودة إلى الوطن. ربما كان الحنين هو ما جعل الأشياء تبدو أكثر جاذبية مما كانت عليه في الواقع، ولكن في النهاية، لم يعد بمقدور حتى الحنين إخفاء الحقائق المظلمة للحياة في ليبيا.
مع تقدمي في السن، شاهدت حلمي بالعودة إلى الوطن لإعادة بناء بلدي يخفت ببطء. فبعد الانتهاء من فترة تدريب في مكتب محاماة محلي، أدركت أن أي فرصة لبناء مسيرتي القانونية في ليبيا قد تحطمت. تبيّن لي، من خلال حديثي للمحامين الذين عملوا في مثل هذه البيئة المضطربة وغير المستقرة، المخاطر المخيفة التي يتعرضون لها كل يوم في محاولة لفرض نظام قانوني عفا عليه الزمن في أرض ينعدم فيها القانون. من الوقوف عند نقاط التفتيش والاضطرار لشرح المعلومات السرية لعملائهم، إلى اللجوء إلى الميليشيات كشكل من أشكال تنفيذ القانون؛ أدركت أن المعارك الخطيرة التي سأخوضها أن القوات التي سأقاتل ضدها كانت قوية للغاية. إن العودة إلى ليبيا لن تسمح لي بالمساهمة في تنمية بلدي وتطوره، بدلاً من ذلك، سيخنق طموحي ودوافعي كما حدث مع الكثير من الليبيين الموهوبين. كنت محاطة بقصص أفراد ملهمين ومبدعين يستكشفون مختلف المساعي بما في ذلك الفن والتكنولوجيا وريادة الأعمال لكنهم أوقفوا تطلعاتهم بسبب التهديدات التي واجهوها في مثل هذه البيئة غير المستقرة وغير الآمنة. فأولئك لا يواجهون مشكلات أمنية فحسب، بل يتعين عليهم أيضًا التعامل مع نقص الدعم والتشجيع الذي تقدمه لهم "حكوماتنا" ومجتمعنا، فضلاً عن التحديات اللوجستية التي ينطوي عليها العمل في بلد يعاني من حرب أهلية.
أي فرد يختبر طعم النجاح في ليبيا سيختبر قريبًا طعم العرقلة والهزيمة. كان مفجعًا أن نسمع عن قصص تعرض نشطاء للاختطاف والقتل، ومواجهة المعارض الفنية لهجوم الميليشيات وإجبارهم على الإغلاق، واستسلام المبتكرين ورجال الأعمال الرائعين بسبب نقص الدعم المالي الحكومي أو الاستثمار الخاص أو حتى المساحات المادية العامة للتعاون وتنفيذ أفكارهم الخلّاقة. كل هذا نقطة في بحر القهر والظلم الذي ألحقته الحرب الأهلية بالمدنيين، حيث نزح أكثر من 105000 ليبي، بمن فيهم عائلتي وأصدقائي، داخليًا في طرابلس. فقامت الميليشيات من الجانبين بتدمير منازلهم وزرع الألغام فيها وحرقها أو سلبها ومصادرتها لاستخدامها كقواعد للحرب. هذا إلى جانب النقص في البنزين والكهرباء والمياه والسيولة التي تعيشها دولة غنية مثل ليبيا، جعلني ذلك أفقد التفاؤل والأمل اللذان أغرقاني بعد ثورة 2011 عندما غادرت ليبيا لأول مرة. في ذلك الوقت، لم أكن لأفكر مرتين في استثمار كل وقتي وطاقي ومستقبلي في بناء وطني. لكن بعد 10 سنوات، أدركت أخيرًا حجم التغيير المطلوب في بلد يعاني من كل هذا الاستبداد، والفساد، والظلم، والقمع. لسوء الحظ، يبدو أنني لن أكون الشخص الذي يغير ليبيا ويطورها، بدلاً من ذلك فإن العودة إلى الوراء ستغيرني وتبطء تقدمي الشخصي.
زيارة ليبيا الآن تجعلني أشعر بالإرهاق...أشعر بالإرهاق لأنني عندما أفكر فيما كان يمكن أن يكون، يغلب عليّ الشعور بالألم والهزيمة الذي يعزز قراري بعدم العودة في أي وقت قريب. فما اعتدت أن أراه شوارع ومبانٍ احتلت ذكرياتي السعيدة تحوّل لذكريات مؤلمة للمآسي والخسارة والخطر. لم يعد الثلج البارد القاسي ما يشعرني بالغربة وعدم الراحة، بل كان مصدر ذلك بلدي. لم أعد أنظر إلى منزل جدي كملاذ آمن لي، المكان الذي كان دائمًا يعج بالحركة والضحك. عندما أزور الآن، أبحث عن بقايا طفولتي وبراءتي فلا أجد شيئًا. عوضًا عن ذلك، أتذكر التغيير الذي شهده المبنى، بعد أن فقد كل حياته وسكانه بسبب إخفاقات الدولة الليبية. أتذكر عمي الذي قتله رجال الميليشيات في محاولاتهم لسرقة سيارته. أتذكر عمتي وأبناء عمومتي الذين فروا جميعًا من البلاد بحثًا عن مستقبل آمن ومريح. أتذكر جدي، الذي ساءت حالته الصحية المتدهورة بسبب الافتقار لقطاع صحي ليبي فعّال مما أدى في النهاية إلى وفاته في بلد أجنبي. وأتذكر نفسي، وتوقي إلى مكان لم يعد موجودًا، مكان مزدحم الآن بأشباح الماضي فقط.
ختاماً، أعلم جدياً أن آمالي بالعودة إلى الوطن، وحلمي بالعودة لإعادة بناء المكان الوحيد الذي يثير الإحساس بالانتماء في داخلي، لا يزال قائمًا. أتمنى أن يعود تفاؤلي وشغفي يوماً ما لأجرّب نسخة من ليبيا لا تثير فيّ مشاعر الحزن والصدمة والخسارة. آمل أن أعود وأخلق ذكريات وفيرة من الانتصارات والفرح الجديدة التي ستحلّ محلّ الكارثة والظلمة التي أراها الآن. حتى ذلك الحين، سأحتفظ بحبي غير المتبادل والبعيد لطرابلس، مدينتي التي سأحملها في قلبي إلى الأبد بغض النظر عن المكان الذي يجد فيه جسدي نفسه.