ممتنة جدًا لقبولك دعوتي لهذه المقابلة، حقيقةً أجدك من الفنانين القلّة الذين يُعول عليهم لإحداث ثورة تغيير حقيقية في الأوساط الفنيّة في مدينة بنغازي، وفي المجتمع الليبي عامةً..
ساري الفيتوري فنان معماري شاب من مدينة بنغازي أخذ على عاتقه استخدام الفن كوسيلة لتفكيك المفاهيم المُجتمعية المُسلم بها.. يُناقش ناقدًا من خلال فنّه الأفكار الأيديولوجية المؤثرة على عيشنا في المدينة ويخلق من العمارة أدوات فكرية مفاهيمية تُساند رحلته الفنية.
بدايةً بأي ترتيب تحب أن تعرّف القراء بنفسك؟ ساري الفنان المفاهيمي، أم رائد الأعمال الفنية، أو المعماري رُبما؟
شكرًا جزيلًا على لطفك وثقتك فاطمة، أعرّف نفسي كمعماري وفنان مفاهيمي.
كان من المشاريع اللافتة والمُدهشة لمؤسسة تجرّد معرض "أراضي مضادة" الذي أثار دهشتي شخصيًا للحد الأقصى، خذ قراءنا في جولة سريعة للمعرض، حدثنا عن الفكرة والتنفيذ، والهدف من وراء هذا المعرض.
عقب اجتياح فايروس كوفيد- 19، كورونا في سنة 2020، شعرنا بع زلة أكثر حدة من العزلة التي تطلبها التباعد الاجتماعي والوقاية. واستجابة لذلك أسسنا كيان فرعي لتجرُّد أطلقنا عليه استوديو الوحدة اكس للتصميم، تمحورت فكرته في الاستمرار في البحث والتفكير والانتاج الفني والمعماري عن بعد رقمياً، وبالتشارك مع ممارسين إبداعيين وخبراء من نفس مجالاتنا، للعمل معا على مواضيع لا تنحصر فقط على الواقع المحلي الليبي، بل تتجاوز الحدود الجغرافية ونتشارك فيها مع شعوب ودول أخرى.
أول مبادرة لنا في هذا الاستوديو الرقمي الدولي هو مشروع (أراضي مضادة)، الذي تكون من ورشة عمل
افتراضية ومسابقة فنية، ومعرض جماعي. فكرة المشروع مبنية على تقنية ترسيم الخرائط المضادة فكرة مشروع أراضي مضادة مبنية على تقنية ترسيم الخرائط المضادة، وهي اداة جغرافية وفنية شبه منسية اليوم، ولا تلاقي أي اهتمام خصوصًا في المشهد المعماري والجغرافي والفني الليبي. تعرُّف هذه الاداة باختصار على أنها استخدام رسم الخرائط كوسيلة مقاومة أو جدال ضد ظاهرة أو واقع ما، وليس فقط كوصف لبيئة قائمة أو كاقتراح لإقامة شيء جديد. تاريخيًا استخدمت هذه التقنية كثيرًا من قبل الشعوب القديمة "الأصلية" التي كانت تعاني من قمع خرائط المستعمرين وإقصاءهم لمواقع وجود تلك
الشعوب على الخرائط الرسمية، وبالتالي لجئوا لإعادة رسم خرائطهم الخاصة التي تفصح عما لا يقال أو يظهر في الخرائط التي ترسمها الطبقات الأقوى.
ـقيم المعرض في بنغازي لمدة ثلاث أيام باستضافة منظمة براح الثقافة والفنون. استعرض المعرض مخرجات بحثنا والمسابقة التي اخترنا منها أفضل 15 عمل تم تسليمه، كما وتخلله حلقة نقاش مع الفنانتين تيوا ابو برنوسه وزينب أبو بكر في اليوم الثاني، وفي اليوم الثالث شاهدنا مع الحضور فلم يتحدث عن إشكالات الأرض الفلسطينية الاجتماعية والسياسية مع الاستعمار الاسرائيلي. ساهم هذا الحدث في دمج السياق المحلي الليبي والعالمي عن طريق عرض أعمال المشاركين الليبيين وغير الليبيين التي تستهدف قضايا محلية وعالمية في مساحة المعرض كدعم وترويج لأفكارهم، وفي الوقت ذاته لإيصال المواضيع النقدية والتعددية والتنوع الذي يتجلى في نتائج المسابقة إلى الجمهور المحلي الليبي وتوليد حوارات جماعية حولها. نأمل أن يشجع هذا الحدث وينشط المشهد المعماري والفني الليبي بالخصوص ويحفزه ممارسة هذه المهن بطرق إبداعية تتجاوز حدود التخصص والحدود الجغرافية المحلية.
ماذا عن مشروع "تهافت" حدثنا عنه قليلاً؟
مشروع تهافت كان اول فرصة لنا لاختبار شيئين مهمين، الأول أفكارنا النقدية النظرية، والثاني إمكاناتنا العملية في تنفيذ وتوصيل هذه الافكار للمجتمع في أرض الواقع.
كانت فكرة المشروع هي تنظير مفهوم الدمار الذي يحيط بالواقع الليبي من جوانب مختلفة، الدمار العمراني، التفتت السياسي، الفساد الاجتماعي، وغيرها من إشكالات تعبر عن عدم تماسك المنظومة الليبية أي (التهافت) الذي نعيشه. تركزت مهمتنا في اعادة تسليط هذا التهافت على نفسه واستخدامه كأداة نقدية تفككه وتسمح لنا بالتساؤل والتفكر فيه، بنفس المعنى الذي استخدمه الامام ابو حامد الغزالي في كتابه الشهير "تهافت الفلاسفة"، حيث استعرض عبره معتقدات وافتراضات بعض العلماء في عصره وفككها لتبيان هشاشتها وعدم تناسقها. ما نويناه هو استعمال الأدوات الفنية والمعمارية كوسائط تسمح لنا بتحليل ونقد قضايا خارج التخصص المعماري أو الفني، كالأيديولوجية أو الاجتماعية وغيرها التي تعبر عن عدم تماسك قيم المجتمع الليبي، وبالتالي يكون دور المعماري او الفنان الليبي أكثر
وعيًا وحساسية وتأثيرًا نحو تعقيدات الوضع الليبي بمختلف نواحيها، ومما يعني أن مفهوم العمارة أو الفن هنا أصبح ليس محصورًا في بناء كتلة أو صورة نهائية جميلة توفر حل أو وظيفة عملية، بل ذاته "أداة" ناقدة تعالج مشاكل معينة.
ومن جهة أخرى تسائلنا كيف يمكننا تحدي مفهوم العمارة الاعتيادي وإعادة تعريفه عن طريق فضاءات المدينة الواقعية؟ وشرعنا بالتالي في محاولة للتجرد من هيئة البناء الجامدة والثقيلة نحو طريقة مغايرة للبناء، طريقة رمزية وتعتمد على المفاهيم الضمنية أكثر من الكتلة والوظيفة، وجاءت بعدها فكرة تشكيل فراغ معماري داخل المدينة من دون البناء الفعلي المتكامل، طريقة أكثر مرونة وخفة وحرية، تعتبر العمارة عمارة حتى ان دمّرت أو تبقى منها فقط إحدى أجزاءها. وكان الإلهام بالقرب منا، حيث وجدنا بعض المشاهد المتكررة في المدينة القديمة في بنغازي(البلاد)التي عم عليها الدمار بعد حرب 2014، مثل مشهد السقالة في كل مكان، ومشهد الأعمدة الي تارة نلقاها وحيدة قائمة بعد أن قصف مبناها التي كانت تدعمه، أو العكس، حينما تدمُّر بعض تلك الأعمدة ويبقى المبنى متماسكًا إلى درجة ما، كانت تلك المشاهد وكأنها تحاكي الوضع الليبي والليبيين الذين يعايشونه، ولذلك قررنا أن ننظّر هذا التناظر ذاته وأن نستخدم السقالة والاعمدة كعناصر اساسية لتشكيل فراغ المعرض الذي سنعرض فيه الأعمال الفنية والمعمارية التي أنتجت في المشروع.
وفي خضم هذا التصور والتخطيط خطرت لنا أن نأخذ من السقالة نفسها رمزية لحركة فنية معمارية (حركة السقالة( والتي أساسها التحرر من سلطة المبنى وتحويل إمكانية البناء إلى قدرة الشعب في تشكيل فراغاته وتفكيكها وإعادة تشكيلها مرة أخرى بحريّة، وهنا نستنبط أيضًا مفهوم مختلف وحيوي للإعمار، يأخذ من البناء حراك اجتماعي في شوارع ومساحات المدينة وليس ممارسة جامدة بين حوائط الشركات المعمارية التجارية.
أمضينا ما يقارب الثمان أشهر على تحديد فكرة المشروع والتخطيط له وانتاج اعمال فنية ومعمارية ناقدة للتهافت في السياق الليبي، وكانت آلية العمل متمثلة في تكليف أعضاء الفريق بمهمة إيجاد المشكلة التي يراها كل منهم جديرة بالاستكشاف والنقد، ومن ثم إنتاج أعمال فنية أو معمارية فنية تفكك وتنتقد تلك المشكلة ليتم عرضها في فراغ المعرض. في الوقت ذاته قررنا أن نفتح فرصة المشاركة في المعرض للعامة من المهتمين بالعمارة والفنون، وكان العدد الإجمالي 15 مشارك متكون من 9 فنانات و6 فنانين، شاركوا بـــ 50 لوحة فنية. وبعد شهرين عقب إتمام مرحلتي التخطيط والانتاج الفني اتممنا تجهيزات فراغ المعرض وباقي الأمور اللوجسيتة والامنية المملة. وأطلقنا المعرض في الهواء الطلق في ميدان السلفيوم (الخالصة) لمدة 3 أيام متواصلة، واندمج الحضور عبر الفضاء الذي صممناه من السقالة والأعمدة التجريدية الحمراء متفاوتة الارتفاعات مع السكان المحليين الذين كانو يترددون على المعرض طوال أيامه الثلاثة. كانت أهم عناصر الحدث هو الجلسة الحوارية المفتوحة التي أجريناها في ثاني أيام المعرض، وكان النقاش على الرغم من حساسية الوضع الراهن الاجتماعية والسياسية خائضًا وناقدًا لعدة إشكالات
حساسة تؤثر على الواقع الليبي والمدينة وسكانها.
هذا فيما يتعلق بساري الفنان، ماذا عن المعماري؟ حدثنا قليلاً عن حكايتك مع تخصص العمارة لماذا اخترته وكيف كانت رحلتك مع دراسته في الخارج؟
حقيقًة لا أفصل كوني معماري عن فنان، ولكن فقط أحيانًا أمارس العمارة بوسائط فنية وأحيانًا أخرى أمارس الفن البصري بأفكار معمارية. أعتقد أن الاستلهامات الأولى بدأت عن طريق والدي لكونه مخطط مدن وأيضًا دارساً للعمارة، فقد كنت كطفل أرافقه كثيرًا في عمله بين المدن الليبية والمباني ووجدت التخصص المعماري تحديدًا ممتعًا جدًا لكونه يعتمد على الإبداع أكثر من الهندسة والرياضيات والمواد العلمية التي لم أجد نفسي فيها، وازداد ترسخ هذه الرغبة عندي بعد ثورة 17 فبراير لسبب ما، لا أدري ما إن كان بسبب طاقة الثورة وطموحاتها لبناء مستقبل جديد او لأنني كنت معجبًا فكرة البناء لذاتها. ذهبت لدراسة العمارة في قبرص الشمالية في سنة 2014 قبل اندلاع الحرب الأهلية بشهور ومنذها طرديًا كلما ازدادت ليبيا دمارًا أثر الحرب زادت رغبتي ومسؤوليتي وحساسيتي نحو التخصص. هناك في قبرص كنت محظوظًا جدًا بالتعلم على أيدي بعض الأساتذة الثوريين اللذين فتحوا عيناي على إمكانات جديدة للعمارة، خصوصًا في مشروع تخرجي الذي كان عبارة عن إعادة هيكلة البنية التحتية الاجتماعية
لمدينة بنغازي جذريًا بواسطة التصميم المعماري والعمراني.
أخيرًا ساري، بلا شك أن بني جيلنا عايشوا التجسد الحقيقي لمعنى كلمة "الحرب" بل وسئموا منه واعتادوا عليه على نحو مُتناقض وعجيب! في ظل هذه الحُقبة الزمنية المُتفائلة في البلاد بتغيير حقيقي هذه المرة، حدثني قليلاً عن الإعمار بعد الحرب، هل تجده هدفًا حقيقيًا قابلاً للتنفيذ؟ أم أنه مُجرد سراب أمل يتشبث به المعماريون الطموحون في المدينة؟
كما أسلفت سابقًا، بالنسبة لإعادة الإعمار المادي لجسد المدينة المتهالك فهو يمكنني القول بواقعية أنه قيد الإنشاء في كلا الحالات بواسطة الناس البسطاء الذين تدمرت بيوتهم وأعادوا إنشاءها بدموعهم وعرقهم، ومن جهة ثانية بواسطة المشاريع التجارية الصماء التي تنتجها الدولة والسوق المعماري الليبي اليوم. ولكن ما نحتاجه حقًا هو الروح والفكر في هذا الجسد، أي أن يكون هنالك خطة إعادة إعمار ثقافية يتعاون فيها المعماريون والفنانون والمفكرون والسياسيون المستقلون لإنتاج مشروع فكري تقدمي في إعادة الإعمار هذه تحفز وتلهم وأيضًا تتحدى نسيج الشعب لتبني سلوكيات واعية، متحررة، ومنتجة، لا أن توفر لهم سجون اسمنتية مريحة، وهذا أيضًا يبدأ بإعادة الإعمار لكليات العمارة عندنا حيث يعامل الطالب ككبش فداء، يحشى ويلقن بالمعلومات والارقام لينتهي به الأمر أضحية وحش السوق التجاري الذي يطمس إبداعات هذه الأجيال المعمرة ويختزلها في ستة ساعات دوام بين أربعة جدران بليدة.
وما نحتاجه الآن هو أن نحرر عقولنا ونعيد التفكير مليًا في كل ما تم حشونا به من معلومات مسطحة عن العمارة والفن والثقافة، وأن ننتج حراكنا الفكري الخاص لنعيد عليه بناء مدينتنا.
شكرًا جزيلاً ساري، ممتنة لهذا الحوار المُثري.