لم يغب عن ليبيا دورَ إنتاج الأعمال الوثائقية، عكس ما يمر به الفيلم الروائي، وهذا يعود لعدة أسباب فنية وتقنية، فالعمل الوثائقي لا يتطلب الإعداد أو الموارد التي يحتاجها الفيلم الروائي. وفي بلدٍ يرفض مسؤوليها فهم قيمة السينما، وحُرم مجتمعها من خوض التجربة ولو بالمشاهدة في دور عرض رسمية، شاء أن يكون للفيلم الوثائقي فُرص حضور أكبر، حتى من جانب الإنتاج، فالعملية أبسط ولو أن فيها أيضًا تحدياتها الخاصة في ليبيا.
وفي حالة أخرى تُعتبر نادرة، حيث لا نذكر إلا نجاحًا واحدًا يمكن القول بأنه دولي وعالمي لفيلمٍ وثائقي ليبي، والتي كانت مع فيلم "ملاعب الحرية" للمخرجة نزيهة العريبي. تمكّن الفيلم الوثائقي القصير "حقوق تائهة" من تحقيق معادلة الوصول خارج الأسوار الليبيّة، وأضاف لتجربة العمل قيمة احترافية هامة، فكان للمنتجين والمخرج حِرفية ونظرة أبعد، فاجتهدوا لكي يصل فيلمهم لمنصات عرض عربية ودولية هامة، ليحققوا نجاحًا لم يكن ضمن أهدافهم.
حول "حقوق تائهة":
يأتي الفيلم الوثائقي القصير#حقوق_تائهة بموضوع انساني هام، ويطرح قضايا حقوقية لمواطنين ليبيّين لم يكترث لهم أحد. ولهذا وجدته فيلم ليبي مهم، قبل أن نقوم بتناوله من الناحية التنفيذية، فهذه الأع مال الوثائقية تحاول تأدية مجموعة من الأدوار، وفي الحالة الليبية، يمكنني تصنيفه بالفيلم الجدّي، فهو بشكلٍ ما محاولة شجاعة للوقوف مع المواطن المهمل، وانتقادٌ في محله لكل المسؤولين عن معاناتهم.
الفيلم من إخراج محمد المصلي، إنتاج عايدة بعيو، ومدير التصوير محمد القصيّر، ومساعد مخرج نهلة بن صالح. وتحصل على فيلم على جوائز هامة من بينها جائزة دولية بمهرجان مدنين تونس، وفي سلطنة عمان، وآخرها لاهاي.
قضايا الفيلم تتنوع بين حقوق المُهجّرين والنازحين، ذوي الاحتياجات الخاصة، وقضايا أخرى تستعرض التضارب بين القانون والعرف الاجتماعي. ولا أخفيكم سرًا، بمجرد مشاهدة أحوال شخصيات الفيلم الرئيسية، من السهل لك كمواطن ليبي أن تتفهم وتُصدق كل الأحداث التي يمرون بها، فهي قضايا ملموسة وإهمالها غير مخفي على الجميع، وهذا ما ينقله الفيلم، فغياب الدولة لا يلحظه المواطن فحسب، بل الدولة على علمٍ أيضًا، وهذا ما يجعل وقع القصص قاسيًا، لاسيما وأننا نملك الإمكانيات المادية، لكنها لا تتجه إلى المكان الصحيح.
الإخراج:
وبما أن تقريرنا عن الفيلم يُسلط الضوء على نجاحٍ نود التعرف على أسبابه الرئيسية، قُمت بمحاورة صناعه، ومن بينهم المخرج "محمد مصلي"، والذي تميّز دوره في إدارة الحوار، واختياره توثيق أهم تفاصيل يومية يعاني منها هؤلاء المواطنين المُهملة قضاياهم. ولكونه فيلما هاما ومؤثرا في بعض مشاهده وحواراته، قمت بإجراء حوار (سؤال وجواب) يُعرفنا أكثر على أسباب نجاح الفيلم من وجهة نظره:
- ما هي الأسباب الرئيسية التي جعلتك تقبل بهذا المشروع؟
= "تحدي الواقع المفروض علينا، والإيمان بحقوق الناس، رغم ما تم طرحه بالفيلم يعتبر من البديهيات في دول أخرى، لكن ما باليد حيلة، نحن في ليبيا وهذا واقعنا، نأمل أن يتغيّر."
- كيف كانت تجربة العمل على الفيلم في ظل الظروف الصعبة بالنسبة لإنتاج الأفلام؟
= "في الحقيقة لم نواجه أي صعوبات بهذا العمل، كل شيء كان حسب المخطط والجدول الزمني للتنفيذ، وهذا يرجع لتوفر الدعم المادي واللوجستي للفيلم."
- كيف شعرت بمشاهدة فيلمك يفوز بجائزة الخلال الذهبي في المهرجان الدولي؟
"لم أتوقع الفوز بالجائزة الأولى لوجود أفلام قوية ومن دول سبقتنا في هذا المجال، حين سمع ت الخبر أصبت بحالة سكون غريبة، حتى حين هنأتني زوجتي وعانقتني ابنتي ظلت بنفس الحالة، شعور غريب."
- ما الجوانب الشخصية التي أردتم تسليط الضوء عليها في الوثائقي؟
= "السرد القصصي جميل وعميق، عند الإعداد تتعرف أكثر وتقترب منهم، أقصد أبطال الفيلم أصحاب القصص، تتعلق بكل شخصية من منظور خاص بها، ويجعلك ترسم خط سردي يعطي لكل منهم نقطة قوة يستند عليها ليقدم نفسه، وكأنك تقدم نفسك بوجوه مختلفة.
بالنسبة للجمهور، كان السؤال عن هذه القضايا، والتواصل مع صحفيين بعد العرض للسؤال أكثر حول القضايا ليتم العمل عليها أكثر والتسليط عليها، أيضاً المطالبة بانتاج أفلام أخرى حقوقية لقضايا بحكم أننا نعيش في دولة المواطن جلّ حقوقه تائهة."
- كيف تم تسويق الفيلم على الصعيدين المحلي والدولي؟ وهل كان لديكم استراتيجية محددة لجعله يتمتع بانتشار دولي واسع؟
= "الاستراتيجية كانت المشاركة بقدر الممكن في المهرجانات الاقليمية والدولية وأيضاً من خلال بعض الأصدقاء من خارج ليبيا، قدموا لي النصيحة، التسويق له كان عبارة عن اجتهاد شخصي، التسويق يحتاج لشركات متخصصة ونحن لا نملك مثل هذا النوع في ليبيا، شركات تسوق للأفلام سواء من أجل البيع أو المشاركة بالمهرجانات."
التصوير:
(المصور محمد القصير يظهر في الصورة مرتديًا القميص الأسود)
ولكي نتعرف أكثر على جانبٍ يعتبر من ركائز العمل الوثائقي، قمت بمحاورة مصوِّر العمل الشاب "محمد القصير" حتى نفهم من زاويته كيف كانت التجربة، وماذا تعني له، لاسيما وأنه ساهم في مشاركات أخرى ثانوية حققت نجاحًا مميزًا، وهي تجارب كانت غائبة في سجل خبراته في السابق، فدعونا نتعرف أكثر على وجهات نظر "القصيّر" فيما يخص حقوق تائهة…
- حدثنا عن اللحظة التي تم اختيارك فيها لتكون المسؤول عن تصوير الفيلم؟ وما الذي شجعك لخوض التجربة بشكل خاص؟
= "أكثر شي نفكر فيه عندما يتم عرض مشروع كبير عليا، هو كيف نقدر نقدم أقصى قدراتي فيه، و هل انا عندي قدرة كافية ندير فرق في صناعة الفيلم. لما سمعت القصص تعاطفت معاهم كلهم وخصوصًا قصة أبلة مفيدة، لأنها مٌهجرة من بنغازي و عائلتي أيضًا مهجرة، فكنت زي ما تقول عندي مسؤولية إضافية في إني ننقل تجربتها بأفضل وسيلة عن دي."
- هل كانت هناك لحظات أو تجارب خاصة خلال التصوير تراكمت في ذاكرتك وأثرت بشكل إيجابي على تواصلك مع القضايا التي تناولها الفيلم؟
= "أي مع قصتين من الـ 4 قصص، الأولى مع أبلة مفيدة، لما قالت كلمة أثارت مخاوف عند فريق العمل وانه ممكن ادير هجمة سلبية على الفريق، و هي كانت جملة "إنت شفت معاملة المهجرين"، وبصراحة انا خذيتها بشكل شخصي، وتواصلت مع محمد مصلي وقتله الجملة هذه متنحذفش من الفيلم، و كان متفق معايا في الرأي وأقنعنا باقي الفريق ولم يتم حذف الجملة."
- كيف تمكنتم من نقل التجربة الشخصية للأفراد في الفيلم بشكل يثير المشاعر والتفاعل مع القضايا المطروحة؟ وهل كنتم تعتبرون هذا تحديًا إضافيًا في عملية التصوير؟
= "شغل الوثائقي تقدر تقول انه قريب جدًا من نقل التقرير الاخباري، و هدا شي يمثل تحدي كبير بالنسبة ليا، المخرج محمد كان يعرف تفاصيل كثيرة عن الشخصيات من كثر ما قعد معاهم و فتحوله حوشهم فنقل ليا القصص، واتفقنا توثيق كل تفصيلة، ومن تفاصيل اللي كان فيها نقاش لحظة بكاء إحدى الشخصيات.
وبالنسبة لتجربتي مع الفيلم، أنا سعيد جدًا ان تم اختياري لتصوير الفيلم، و كنت نتمنى ان نغير حاجات اخرى في طريقة التصوير بسبب تطوري بعد مدة، لكن هذا ميغيرش فرحتي لما شفت الفيلم يعرض على شاشة كبيرة في مسرح مصراتة، ويحقق نجاحات دولية."
الإنتاج:
وكما ذكرت في مقدمة التقرير، فالإنتاج يلعب دورًا هامًا في نجاح تجاربنا الفيلمية، وفي تجربة "حقوق تائهة"، كان يجب عليّ التعرف على رأي المنتجة "عايدة بعيو"، والتي نجحت في اختيار طاقم عملها والعمل باحترافية وإنسانية تجاه قضايا كانت لا توثق إلا في بضعة تقارير اخبارية أو ندوات مغلقة، ولذلك قمت بسؤالها عن تجربتها وفيما يلي ردودها:
- هل كانت نية إنتاج فيلم وثائقي يطرح هذا النوع من القضايا موجودة من قبل؟ ما الذي حفزك بشكل شخصي لتحقيق هذا المشروع؟
= "في البداية كانت الفكرة الموجودة أن يتم نقل الصورة من الأشخاص أنفسهم، وهم يعبرون عن قضاياهم وأنه يجب أن يتم سماعهم مباشرة ، ثم عرضت الفكرة على السيد محمد مصلي مخرج الأفلام الوثائقية حول إمكانية عرضها في فيلم وثائقي وأبدى استعداده لأن يقوم بالمعالجة الفنية ووضع التصور الفني لهذه القضايا."
- كيف استقبلتم نجاح الفيلم وفوزه بالجائزة الدولية؟ وهل كانت هناك ردود فعل خاصة من الجهات التي دعمت إنتاج الفيلم؟
= "اكيد نحن كفريق عمل كنا نتوقع أن ينجح الفيلم ويحدث صدى، لكن لم أكن أتوقع بأن يتحصل على جوائز دولية ويكون له أثر دولي سواء في تونس أو لاهاي بهولندا أو في سلطنة عمان ويحصد الجوائز الأولى من بين مئات الأفلام. والجهات التي دعمت الفيلم تتابع بفخر هذا النجاح، وأن العمل حقق الأهداف المرجوة منه وأثبت جديته ، وسيكون هناك أعمال أخرى بنفس الدرجة وافضل ان شاء الله."
- كيف تم استغلال نجاح الفيلم في تعزيز الحوار حول القضايا التي ي طرحها خارج الحدود الليبية؟ وهل كان هناك تفاعل بينكم وبين مؤسسات دولية أو مهتمين بالحقوق الإنسانية؟
= "كل المهتمين بالشؤون الحقوقية والقضايا الإنسانية أثار اهتمامهم الفيلم، لأن القضايا التي اخترناها للفيلم قضايا حقيقية. وهي قضايا عامة يمكن أن تصادف أي إنسان في أي مجتمع، مثل الحقوق المدنية للمهجرين والنازحين، أو حقوق الأشخاص ذوي الهمم، أو مناقشة موضوع الصلح في القضايا الجنائية، وهل يترتب عليه ضياع حق الضحية، وكذلك قضية بطء العدالة. هذه قضايا ذات طابع دولي تعاني منها مجتمعات عديدة بدرجات متفاوتة. لذلك كان الفيلم والقضايا التي تناولها محل اهتمام من العديد من النشطاء والمحامين والمؤسسات الذين تواصلوا معنا وابدوا استعدادهم لمناقشة هذه القضايا والتعاون معنا بخصوصها."
في الختام:
نحن في دولة لا تخفي عيوبها، ولا تسعى إلى حلها بشكل جذري، وهذا لم يترك لأصحاب هذه القضايا المهملة خيارًا غير الحديث عن ظروفهم الصعبة بكل مصداقية. هذا الفيلم يُظهر وببساطة مجموعة فقط من الحقوق التي تاهت بين دولة همها الترويج المخادع لشخصية تهتم بالمظهر الخارجي، وبين قانون نجده في الأوراق ولكنه غائب على أرض الواقع.
وهو فيلم وإن كان قصيرًا وبسيطًا في أدوات عرضه، لكنه يفتح أفاقًا جديدة لمن لم يكترثوا لأهمية السينما والأفلام، بشتى أنواعها، وقدر تأثيرها ووصولها، ولذلك، من ليبيا إلى العالم: وثائقي 'حقوق تائهة' تمكن بالفعل من أن يُلقي بظلاله عبر الحدود! ويعرض جزءًا من معاناة غاب صوتها.