إنها رحلة سندباد القرون الوسطى، الحسن بن محمد الوزّان. ولكن بخلاف رحَلات ذاك التاجر القديم، المؤسطَرة مغامراته العجيبة، وحوادثه الساحرة في حكايا ألف ليلة وليلة؛ فإن هذا السندباد لم تكن التجارة غرضه الرئيس من الترحال، وإن لم يخلُ منها تماما بطبيعة ذلك العصر.
فما بدا في أول الأمر رحلة سَفارة عادية رفقة الخال المقرّب من السلطان الفاسي؛ انتهى ليصبح نمط حياة متوثبة صاخبة، لا تطمئن بمقام، ولا تركن لحال. حتى أضحى التغيير هو الثابت الوحيد في حياة هذا الرحّالة الذي صنعه أمين معلوف، بمثل -أو ربما أكثر- ما صنعه التاريخ.
يقول أمين معلوف في تمهيد روايته ليون الإفريقي، مُعرّفاً القارئ بشخصية بطله: "خُتنتُ أنا حسن بن محمد الوزّان، يوحنا- ليون دومديتشي، بيد مزيّن وعُمّدتُ بيد أحد البابوات، وأُدعى اليوم "الإفريقي". ولكنني لستُ من إفريقية ولا من أوروبة ولا من بلاد العرب. وأُعرَف أيضا بالغرناطي والفاسي والزيّاتي، ولكنني لم أصدُر عن أي بلد ولا عن أي مدينة، ولا عن أي قبيلة. فانا ابن السبيل، وطني هو القافلة وحياتي هي أقل الرحَلات توقعا".
ولعلّ كثرة الأسماء والألقاب، كافية وحدها لإدراك شخصية الوزّان المُركّبة، حيث خروجه طفلا من غرناطة، آخر قلاع المسلمين في الأندلس، بعد سقوطها في يد القشتاليين. ثم قضاء أوقات الصبا في فاس، والرحلة إلى تمبكتو حاضرة الساحل الإفريقي، ثم مشاهدة أخيرة لعظمة القاهرة المملوكية، قبل معاينة اجتياحها من قِبل جيوش العثمانيين، وهؤلاء بالذات -بإمبراطوريتهم الفتيّة القوية- من كان يأمل فيهم الوزّان وكثير من الغرناطيين، أن يُرجعوا الأندلس من القشتاليين، لكنه ما لبث أن وجد نفسه يفرّ منهم. وبعد توالي المحطات، رماه القدر في روما عبداً، وسرعان ما برز كشخصية مرموقة في المدينة التاريخية المهيبة، بعد أن أصبح يوحنا - ليون، ليس من حاشية البابا فحسب، وإنما ابناً ينتسب للحَبر الأعظم نفسه.
ورغم هذا الزَخَم الصاخب، الذي يجعل الأنفاس تتقطع، والأفكار تتبلبل، لم ينسَ بطلنا نصيبه من الحب والزواج والإنجاب.. والتجارة كذلك!
إنها بمصطلح حديث رحلة "البحث عن الهوية". وإن لم تكن تشكل "مسألة" ذا بال لدى الوزّان، الذي خرج من رحلاته أن لا انتماء له سوى للقافلة والتراب. فهو امرؤ لم تتعدد أسمائه وألقابه فحسب، بل كان شاهداً على تقلبات السياسة وحسابات المصالح، التي تتشكل وفق مقتضياتها مفاهيم الخير والحق والعدل، بل الإيمان ذاته. وللقارئ، من أبناء "المجتمعات المتماسكة" أو التي لا تتعقل نفسها سوى عرقيا وطائفيا، أن يُبدي استغرابه من تبديل الوزّان السريع "للولاءات" وطرحه لـ"هوياته" كما يطرح أحدهم ثوبه. غير أن الوزّان وإن كان قد أعلن "براءته" من الانتماء إلى بلد محدد وثقافة بعينها، فما ذاك إلا لشعوره أن شخصيته قد استوعبت ثقافة كل مكان حلّ فيه، وكل تجربة خاض غمارها، فأصبحت ذاته تضيق عن ارتداء زيّ واحد.
ويمكن أن نجد لتجربة الوزّان، نظائر كثيرة في عالمنا المعاصر، وإن تكن أقل منها ملحمية، ولكن لا تخلو من دراما، أو حتى تراجيديا.
فأسئلة الهوية والانتماء وتعريف الذات، باتت أكثر إلحاحا في عصرنا الراهن، حيث ازدهار "سياسات الهوية" بتفرعاتها القومية والعرقية والطائفية، ومؤخرا الجنسية. وخطابات اليمين القومي المضادة لها. وهذا التنازع يبدو جليا لدى تجارب الجيل الثالث والرابع من أبناء المهاجرين، الذي ظلوا رغم كل دعاوى "الاندماج" و"التعددية الثقافية" تتجاذبهم أسئلة مؤرّقة عن هوية ذواتهم ونوعية انتماءهم الحضاري. فخرجت من عذابات هذه الأسئلة، أروع تجارب الانفتاح والثراء الثقافي، كما أنتجت في المقابل، أسوء مشاعر العزلة والعدائية والصراع وربما الفصام. وتزداد إشكالية الهوية تعقيدا وإرباكاً، في عصرنا المعولم هذا، حيث الكوكب وقد صار أصغر من "القرية واحدة". فلم يعد المرء بحاجة إلى الترحال، ولا إلى التعددية في العِرق أو الدين، لكي يصوغ "هوية فردانية" خاصة به، بمعزل عن الجماعة القومية والدينية والوطنية. وهذا النوع من الهوية، قد لا تقل نتائجه خطراً عن النوع الأول، سيما وإن وُجد في بيئة مجتمعية تقليدية قهرية، لا تحفَل بالفرد وخصوصياته، وفي بيئة سياسية مستبدة، لا مكان فيها للحقوق والحريات. فينشأ عن هذا تشظٍ يترك صاحبه في غربة أليمة، وهو وسط أهله ووطنه، لم يغادرهم إلى مكان.
بل إن شخصية الوزّان في هذه الرواية، لا تنفصل عن مبدعها أمين معلوف، وهي انعكاس أو امتداد له بمعنى من المعاني. فمعلوف اللبناني المقيم بفرنسا، وذو الأصول المصرية التركية، المسيحي متعدد الطوائف، ابن المنطقة العربية والباحث في تراثها وأزماتها، الذي يكتب بالفرنسية؛ هو خير من يتحدث عن الوزّان وهموم الانتماء وثراء الاختلاف وضريبة التنوع. ولسوف يصيغ هذه الأفكار بشكل أوضح في كتاب سيصدر بعد نحو عقد من تاريخ نشر هذه الرواية، اختار له عنواناً دالاًّ: الهويات القاتلة.
أثناء عودته، من رحلته الأخيرة، يكتب الوزّان إلى ابنه جوسب/يوسف، في ختامٍ أراده معلوف -كما البداية- تلخيصاً مُكثّفاً ومباشراً لمغزى العمل:
"مرّة أخرى يا بنيّ يحملني هذا البحر الشاهد على جميع أحوال التيه التي قاسيتُ منها، وهو الذي يحملك اليوم إلى منفاك الأول. لقد كنتَ في رومة "ابن الإفريقي" وسوف تكون في إفريقية "ابن الرومي". وأينما كنتَ فسيرغب بعضهم في التنقيب في جِلدك وصلواتك. فاحذر أن تدغدغ غريزتهم يا بني، وحاذر أن ترضخ لوطأة الجمهور. فمسلمًا كنتَ أو يهوديًا أو نصرانيًا عليهم أن يرتضوك كما أنتَ، أو أن يفقدوك. وعندما يلوح لك ضيق عقول الناس فقل لنفسك أرض الله واسعة، ورحبة هي يداه وقلبه. ولا تتردّد قط في الابتعاد إلى ما وراء جميع البحار، إلى ما وراء جميع التخوم والأوطان والمعتقدات".