في أحد المشاهد الليبية السياسية الهزليّة القديمة، يُطرح سؤالٌ غاضب على الشعب الليبي "من أنتم؟"
ومنذ الحين الذي طُرح فيه هذا التساؤل، قبل ما يقارب الأحد عشر عامًا، وإلى يومنا هذا تم تداول هذا السؤال بوصفه نكتة، وmeme توتِري رنّان، وشطر من قصائد هجائية وأخرى مُغناة.. لكن بعيدًا عن كل ذلك، وبصرف النظر عن الشخصية المهرطقة التي طرحت سؤالها بنوايا تحقيرية...
لكن حقًا، "من نحن؟" وكيف كانت ستكون الإجابة لو أن الاستفهام طُرح بشكل جاد، وبنيّة حسنة...من نحن؟ وما هي الهوية التي ما إن ترى تجسيدات أطيافها يُعرف الليبي بأنه ليبي؟
والحقيقة أن التاريخ المعاصر شهد على مدار سنوات محاولات المفكرين والباحثين الليبيين المُجّدة في إيجاد هوية ليبية جامعة، تتواءم مع حاجة المواطن الليبي للانتماء...إذ أن التغنّي بالقوميات العربية الموحدة التي تحمل مضامين فضفاضة واسعة لمعنى الهوية ولمقتضيات الانتماء لها، أضاع كثيرًا من الإرث الليبي الذي لا يندرج تحت خانات الأمجاد العربية، والتراث الإسلامي الذي اقترن بدوره اقترانًا شريطًا لصيقًا بالعروبة.
وكانت النتيجة أن صُبّ جُلّ الاهتمام على التاريخ الليبي الحديث لنشأة دولة الاستقلال "ليبيا بالوجه الذي نعرفه جميعًا". ورغم أن هذا التاريخ الذي حُمّل بطابعٍ تعريفيٍ للكيان الليبي، والهوية الليبية.
إلا أنه ومن وجهةِ نظري مجحف بحق الإرث الليبي الذي يحمل سمات تخص المجتمع الليبي وحده، سمات ارتبطت بالأرض وبالحضارات التي احتضنتها على حدٍ سواء، إلا أنه كان كافيًا ليروي عطش الليبيين لكينونةٍ من شأنها أن تُعبر عن وجودهم.
والحقيقة أن الهوية مائعةٌ بطبعها، قابلة للتطويع، وديناميكية لا يجب أن يتم تجميدها عند حدٍ معين، ولا حصرها بأطرٍ معينة، لتواكب تغير الأجيال وتطور الحضارات، وتبدل حال البلاد.
وعلى ذكر الهوية...أُقيم الفترة الماضية معرضٌ فنيّ في مدينتي بنغازي، بعنوان "تضافر" للخطاطة د. ماجدة الرياني برعاية منظمة (Benghazi Youth for Technology & Entrepreneurship) ومشروع (المادة 40)، قدّمت فيه الفنانة عشر لوحاتٍ دمجت فيها قليلًا من أصالة الخط العربي، وشيئًا من الألوان، ومن المعنى أضافت الشيء الكثير...لتُظهر النتيجة تجربة جمالية متكاملة الأركان.
يُرى من خلالها انعكاس صورة الوطن كما تراها عيون الفنانة، في ثيمة ترنّحت بين الفصاحة، والأقوال الشعبية المأثورة، والكلمات البيّنة الموجزة، متزيّنةً ببهاء أحرف اللغة العربية الثمانية والعشرين، مانحةً الحضور تذاكر وطنية تعود بهم لنقطة البداية والمنتهى، للوطن تحديدًا.
وأثرت المعرض الذي استمر على مدار أيام ثلاث، بجلسةٍ حوارية استضيف فيها د. جازية شعيتير، د. فرج نجم،د. زاهي المغيربي، تناولوا خلالها موضوع "الهوية" بكل أبعاده المُحتملة تاركين الحضور محملين بالأسئلة التنويرية الجديرة بالتفكر، ليخرج زائر المعرض مُتغذيًا ليس بصريًا فحسب، بل وفكريًا أيضًا.