بحكم أني ابنة امرأة عاملة، فقد قضيت معظم أوقات طفولتي في بيت جدّي وجدتي الحبيبين، حيث أعزي كل تجليات السحر الطفولي من دهشة واكتشاف لذاك البيت..
في البيت الذي اصطبغت ذاكرتي صبغته، لم تكن الصباحات برعاية صوت جارة القمر السيّدة فيروز، بل كانت ذات نكهة موسيقية ليبية أصيلة..
وأذكر بوضوحٍ جلي صندوق الكاسيتات الخاص بجدي، الذي يستخرجه كل صباح ليثري سمعي بذائقته الموسيقية الرفيعة، وليخلق في ذهني فكرة ما زلت أتبناها "أن الطرب الليبي القديم أصيل جدًا" متنقلين بين صوت شادي الجبل، محمد صدقي، حسن عريبي، ومحمد حسن، كانت الأيام تتشح بروح الموسيقى الليبية المُدهشة.
ومن بين مُفضلات جدّي الغنائية المذكورة، علق صوته في ذاكرتي.. كنت أجدني ما إن اسمعه ودون كثير من الوعي، أتسلل من مكاني والتصق بجهاز المذياع لأستطرب به.
كان هذا صوت سيّد الطرب الفنان الراحل محمد حسن لذا اخترت اليوم أن آخذكم في جولة لأبرز محطاته الفنيّة، في محاولة تقدير وتخليد لفنه الأصيل.
من زمن الثقافة والأزياء الأنيقة والثورة الفكرية من حقبة الستينيات كانت بداية خطوات مسيرته الفنية الأولى، بمدينة بنغازي تحديدًا منطلقًا مع عدد من فناني بني جيله من بينهم الراحل حسن العريبي، بدأت حكاية فن حافل بالأصالة والإبداع.
قدّم مجموعة كبيرة جدًا من الأغاني العاطفية والوطنية التي أثرت مكتبة الموسيقى الليبية.. كما لحن للعديد من المطربين العرب، أبرزهم: وردة، وذكرى، وغادة ر جب، ولطيفة، وسميرة سعيد.
إلا أنه اشتهر بغناء وتلحين الأغاني الليبية، ولمع نجمه مع الأغاني الشعبية الليبية للحد الذي جعل ذكرها يرتبط في الذاكرةِ باسمه، وله أعمال خارج هذا الإطار مثل أوبريت "شرق وغرب"، وسلسلة "رحلة نغم" أسطورة الملاحم الغنائية عام 1976، والتي نجحت على نحو باهر؛ كذلك كانت "سلسلة الواحة" عام 1999، و"سيرة أولاد هلال" عام 2002.
بالإضافة لبصمته الفارقة في ألبومات النجع، ومن أشهر أغانيه: "ليش بطى"، و"يسلم عليك العقل"، و"طق مقاسه طق العود"، و"بلادنا زين على زين"، و"يا ريح هدي".
كما عرف بأنه المُطرب الرئيسي للخيمة الغنائية التي أحيت عشرات الحفلات داخل ليبيا، وخارجها.
كما قدم حفلًا أثار ضجة وحقق نجاحًا مُنقطع النظير، إذ استمر غناؤه لمدة خمس ساعات متواصلة في خيمة فنية ليبية في قاعة رويال ألبرت هول في لندن.
ولعل من التفاصيل غير ذائعة الصيت عنه أنه لحن وغنى قصائد بالفصحى لشعراء من بينهم نزار قباني، ومحمد الفيتوري، وناجي العلي وخليفة التليسي.
وتوفي عن عمر يناهز 73 عامًا بعد صراع طويل جدًا مع المرض، لُتخط بذلك آخر السطور في حكاية رجل أسهم في إبقاء فتيل الفن مُشتعلاً في ليبيا، وتحوّل صوته لتذكرةٍ أحيت الموسيقى الليبية في أذهان أجيال متفاوتة.