إن تاريخ ليبيا منذ 2014 إلى اليوم لم يكن سوى حالة من التشظي المؤسساتي وحروب داخلية ضد كيانات إرهابية تارة، وكيانات سياسية مختلفة تارة أخرى.
يقول البعض أنها حرب أهلية...يقول البعض الآخر أنها ثورة شعبية. لكل طرف من هؤلاء رؤيته، التي لا شك في صحتها جزئياً، وإن كان كل الأطراف على كل حال يتفقون أن النتائج كانت كارثية. ذلك ما يهمنا بالضرورة!
ويمكننا حسم الصراع هنا باعتبار هذا الحراك بدأ كثورة شعبية وضعت البلاد في حالة فراغٍ سياسيّ، ثم تحوّلت إلى حرب أهلية بوكالة خارجية من بعض الدول الغربية ودول الجوار.
وقد بدأت هذه الثورة منذ اليوم الخامس عشر من شباط/فبراير 2011، عشية اعتقال المحامي فتحي تربل الموكل إليه مهمة البث في مصير سجناء أبو سليم الألف ومئتين. ضمّ هذا السجن سجناء الرأي، بالإضافة إلى كمية من الإسلاميين المتطرفين الذين نادوا بتكفير معمر القذافي تبعاً لآرائه الدينية. ورغم أن الناظر في تاريخ الاستبداد الذي شهدته البلاد في أربعة عقود ماضية يجد أن معمر القذافي قد أرخى قبضته في بداية الألفية، مع تمكين ابنه سيف الإسلام من قيادة مشروع ليبيا الغد، حيث تم الإفراج عن الكثير من معتقلي الرأي والإسلاميين في تلك الفترة، مع انفتاح البلاد على التقنية والستلايت وخدمات الانترنت. إلا أن الثورة قامت دون وضع أي اعتبار لبوادر الوداعة والانفتاح اللتان أبداهما معمر القذافي في سنواته الأخيرة.
مظاهرات سلمية:
كانت المظاهرات الأولى سلمية، وهو ما يتفق عليه الجميع، غير أن الترسانة العسكرية واللجان الثورية وخطاب القذافي الناري قد جعل البلاد تنزلق إلى حالة من الفوضى انتهت بسقوط مدن الشرق الليبي في قبضة الثائرين. ثم توالت الانشقاقات في صفوف أعضاء الحكومة، منهم على سبيل المثال وزيرا العدل والداخلية، تبعهم بعد ذلك وزير الخارجية، مما قاد الحكومة إلى حالة من التفتت لا تقلّ ضراوة عن حالة التفتت التي غزت الشارع الليبي.
لقد تكتل الليبيون في فريقين، واستدعت الحكومة المتطوعين من أبناء القبائل ما قاد البلاد إلى حرب أهلية واسعة النطاق، فلم تكن الحرب بين الشعب والجيش فقط، بل كانت حرباً انقسم فيها الشعب على نفسه!
تدخلات خارجية:
ولم تخلُ الثورة من تدخلات خارجية. فقد تم استحداث مجلس انتقالي مكون من المنشقين عن نظام القذافي لتمثيل الثائرين خارجياً، بالإضافة إلى مناشدة عبد الرحمن شلقم التاريخية في مقر الأمم المتحدة، التي أصدر على إثرها مجلس الأمن قراراً بتطبيق حظر جوي على السماء الليبية. بالإضافة إلى تسديد ضربات موجهة من حلف شمال الأطلسي (NATO) إلى مقرات الجيش الليبي، مما أدى إلى إنهاك البنية التحتية للجيش الليبي وتفتته.
كما لم تخلُ ضربات الحلف من أخطاء أدت إلى وقوع ضحايا مدنيين لا ناقة لهم في الحرب ولا جمل. ويرى البعض أن هذه الثورة ما كانت لتنتهي بتفوق المجلس الانتقالي والثائرين المنضوين تحت لوائه لولا تدخل القوات الأجنبية متمثلة في الحلف الأطلسي، وهو رأي واقعي وصادق إلى حد كبير.
موت القذافي والبداية من جديد:
في العشرين من أكتوبر وبعد صراع مسلّح دام سبعة أشهر أُنهكت فيها قوات الجيش الليبي، أُلقيَ القبض على معمر القذافي بمدينة سرت وتم قتله والتمثيل بجثته. وُضعت الجثة مشاعاً للزوّار يُلقون عليها النظر تارة، ويبصقون عليها تارة أخرى، في منظر يوحي بمدى انحطاط القيم الإنسانية في أيام الحروب!
وبعد موت القذافي عمّت الأفراح بعض المدن، وعمت الأحزان مدناً أخرى، وأدرك الليبيون (بعد قتل القذافي) بشكل متأخر أن البلاد أضحت تعاني من هشاشة مؤسساتية وأن التحديات الحقيقية قد بدأت الآن.
الحلم الديمقراطي:
كانت الديمقراطية والمواطنة والمدنية هي أحلام كل الشعوب الثائرة ضد الاستبدادية والحكم العسكري والأنظمة الشمولية وبقايا الأنظمة الاشتراكية المهجّنة. كانت أحلاماً مشروعة ولكنها أحلام تفتقد للأساسيات والنظم والضوابط، وتفتقد أيضاً للعمل ولبنية اقتصادية جيدة. كان يتم اختصار الديمقراطية في شكل صندوق الاقتراع فقط، وكان هذا أمرا خاطئاً كلياً.
بدأت التجربة الانتخابية عام 2012 في انتخابات المؤتمر الوطني العام (ما يعادل البرلمان)، وكانت تلك الانتخابات هي أولى الانتخابات التي تم عقدها في البلاد منذ ما يقارب نصف قرن، ومهدّت هذه الانتخابات للمرحلة الانتقالية الأولى وانبثاق حكومة علي زيدان، تبعتها حكومة عبد الرحيم الكيب عام 2013.
أسوأ سنين ليبيا على الإطلاق:
يُعدّ عام 2014 أسوأ عام مر على الدولة الليبية والكيانات السياسية والشعبية فيها، فبعد انتخابات مجلس النواب الجديد اندلعت اشتباكات في مطار طرابلس، وابتدأت حرب فجر ليبيا المشهورة التي انتهت إلى هروب البرلمان إلى مدينة طبرق بالشرق وإعادة احياء المؤتمر الوطني العام.
وبين تجاذبات وكرّ وفرّ كانت الأمور على الأرض مشحونة، فقد كانت العمليات العسكرية تطال مدن بنغازي ودرنة وطرابلس، مع إدراج مجلسا شورى ثوار مدينتي بنغازي ودرنة على قائمة الإرهاب. بالإضافة إلى حروب داخلية في الجنوب الليبي، ولم يخلُ الأمر من مجموعة اغتيالات على طول الأراضي الليبية لتنتهي أحلام الديمقراطية إلى حروب داخلية وحالة انقسام سياسي جعلت للبلاد حكومتين وبرلمانيين: أحدهما يستند إلى قاعدة دستورية والآخر يستند إلى قاعدة قضائية مع تجميد الإعلان الدستوري وبقاء البلاد دون قوانين تنظم الانتخابات التشريعية.
وبعد قرابة عام أصبح الوضع مأساوياً وانقسمت البلاد مؤسساتياً إلى قسمين: قسم يتبع الحكومة المؤقتّة، وقسم يتبع حكومة الوفاق الوطني المنبثقة من اتفاق الصخيرات بالمغرب الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة.
ليبيا اليوم:
منذ أربعة أعوام إلى الآن ظلّت البلاد على حالها: انقسام مؤسساتي وانقسام حكومي، برلمانيون منشقون، ورئيسان، ووزارات وأخرى موازية، وحروب تارة، وحالات هدوء تارة أخرى، داعش في بنغازي ودرنة، داعش في سرت أيضاً، وداعش في الجنوب واغتيالات وعمليات تفجير انتحارية طالت الجنوب والجنوب الشرقي وبنغازي وزليتن ودرنة أيضاً. وتكررت الهجمات على طرابلس من قبل مليشيات مختلفة ومجازر وقتلى ودمار لشوارع ومناطق بأكملها.
إن تاريخ ليبيا منذ 2014 إلى اليوم لم يكن سوى حالة من التشظي المؤسساتي وحروب داخلية ضد كيانات إرهابية تارة، وكيانات سياسية مختلفة تارة أخرى.
كان الهجوم الأخير على مدينة طرابلس هو آخر الأحداث دموية ومركزية في آن واحد، فقد أفضى هذا الهجوم من قبل الحكومة المؤقتة ضد مراكز نفوذ حكومة الوفاق الوطني إلى عمليات خراب طالت أجزاءً من العاصمة لتنتهي الأمور بعودة الجيش التابع للحكومة المؤقتة إلى معقله ببنغازي، وبقاء الجيش التابع لحكومة الوفاق الوطني في مراكزه.
اتفاق جديد:
نص الاتفاق الجديد قبل قرابة شهر على تنصيب حكومة مؤقتة جديدة محل الحكومتين السابقتين استناداً إلى التوزيع الجغرافي (حكومة محاصصة)، وتمهيداً لإجراء انتخابات في الرابع والعشرين من ديسمبر القادم، يسبقها حوار مجتمعي حول الانتخابات وقاعدتها الدستورية.
وقد أفضى هذا الحوار إلى تنصيب المهندس عبد الحميد الدبيبة رئيساً للحكومة فيما كان محمد المنفي رئيساً للمجلس الرئاسي.
لم يبق من ليبيا اليوم سوى أزمة سياسية هيمنت إعلامياً على أزمات أخرى اقتصادية واجتماعية.. فهل تخرج ليبيا من نفق الأزمة والتشظي إلى نور التوحيد المؤسساتي؟ أم تنتقل أوتوماتيكياً وبفعل العادة إلى حرب أخرى؟ من يدري...!