في طفولتي ارتبط فعل الكتابة في ذهني بالمذكرات، إذ كنت من النوع الذي آثر نقل ثرثراته اليومية للورق عوضًا عن البشر لا لشيء سوى لأني شعرت بأن دفتر يومياتي يهبني مساحة آمنة تخلو من النقد القاسي والأحكام المسبقة، كانت لكتابة يومياتي طقوس خاصة، صفحات مزنة بألوان لامعة ومبهجة تخلد الأيام المغمورة بالفرح والذكريات السعيدة وأخرى تكاد تخلو من الألوان تعكس كآبة الأيام الرتيبة والحزينة المخلدة فيها.
ومع دنو المراهقة أخذت ممارساتي الكتابية تتوسع أكثر بدايةّ من الكتابة في المجلات الحائطية في المدرسة، مروراً بالمحاولات الطائشة لتأليف بعض الروايات المصورة، وصولاً لكتابة النثر العاطفي وبين كل مرحلة عمرية وأخرى أخذت علاقتي بالكتابة بالتوطد حتى أمست وسيلة لا غنى لي عنها في التعبير عما يخالج خاطري، وأداة يترجم بها عقلي توقه الدائم للتصوير الابداعي، ليس هذا فحسب، بل تحولت لوسيلة أساسية للدخل أيضاً.
لكن ورغم أن الكتابة تغلغلت في معظم تفاصيل حياتي، لم أتصور يوماً بأنها س تعينني على تجاوز أزماتي النفسية من خلال تلبسها دور المعالج واصطباغها بصبغة شافية!
صفحات السحر الثلاث:
كمعظم الأمور الفارقة في رحلتي مع الاستشفاء من صدمات الطفولة والوعكات النفسية قيدت لي المعرفة بتكنيك الكتابة العلاجية عن طريق المصادفة! أو لنسمعها صدفة القدر المقصودة إذ كثيراً ما تجيد ترتيبات الأقدار العجيبة إثارة دهشتي.
ذات يوم كان يبدو عادياً، وإبان محاولة مني لكسر رتابته بتشغيل بودكاست "نوف الحكيم" غير العادي بالمرة! اشتغلت حلقةُ غير التي كنت أود استماعها ليباغتني صوت نوف الحاني في حديث مثير عن كتاباتها الصباحية المُسماة بصفحات الصباح، وعن الدور الذي لعبته هذه الصفحات في إسكات فوضى عقلها المزدحم بالأفكار والرواسب الذهنية.
وأعترف لكم بأن الحديث عن توظيف الكتابة لتهدئة الخواطر سلبني تركيزي، تحدثت نوف بش يء من الإسهاب عن كتاب The Artist's Way وأوقعت عقلي الفضولي في فخ التساؤل والبحث، دهشت بتجارب الناس الإيجابية جدا مع الكتاب وقررت أن أخوض رغم أنف عقلي المشكك التجربة بنفسي لأتحقق من صحة ما ذكر...
لكن قبل أن أطلعكم على نتائج تجربتي ما رأيكم ان اعرفكم أكثر عن الكتاب وتقنية صفحات الصباح المذكورة به.
أولاً: ما هي صفحات الصباح؟
هي تقنية كتابة علاجية طُرحت في كتاب طريقة الفنان في بادئ الأمر كحل لمشكلة "العوز الإبداعي" أو ما يُعرف بالـ Art block لكاتبته جوليا كاميرون، ويطرح الكتاب فكرتين أساسيتين:
التدوين الكتابي صباحاً كحل لمشكلة فقدان الإلهام للأشخاص المبدعين / العاملين في المجالات الإبداعية / للباحثين عن حلول إبداعية في حياتهم •
بالإضافة لفكرة "الموعد -الفني" أو ما أسمته الكاتبة بـ"The artist date"، وهو عبارة عن موعد يصطحب فيه المرء نفسه ليعيش تجربة جديدة خارج نطاق المألوف، تجربة تبعده قليلاً عن منطقة الراحة خاصته، شريطة أن يخوضها دون أحكام مُسبقة أو لاحقة، دون توقع نتائج محددة من وراء هذه التجربة...
لكن دعونا نعد قليلاً للصفحات الصباحية الثلاثة لنفهم قليلاً من الكيفيات، ونجيب على تساؤل کیف تُكتب صفحات الصباح؟
ستكون البداية حتماً من تخصیص دفتر أو رزمة أوراق، وتتمحور المهمة الأساسية في تعبئة ثلاثُ صفحات تكتب بخط اليد دون تنميق، أو ترتیب أو "فلترة"، بشكل يومي متواصل على مدار 90 يوم متواصلاً.
ماذا نكتب فيها؟
ببساطة نُفرغ وعائنا الفكري تماماً، نكتب كل ما يجول في عقولنا، وكل ما تلتقطه من أفكار ومشاعر خام تماماً كما هي مُجردةً من أي محاولات تحسينية، مهما اشتملت على أفكارٍ ساذجة أو مهينة، شريرة، أو أحكام، أو الضغوط النفسية، والمخاوف الشخصية أو أحلام، تذمر، أفكار متهورة...إلخ. ويفضل أن تكتب خلال فترة النهار بعد الاستيقاظ مُباشرةً، وقبل استئناف الأنشطة الصباحية، أو في أقرب وقت متاح.
يُشترط أيضاً التخلص من هذه الصفحات فور الانتهاء من كتابتها، وعدم قراءتها حتى مرور ثلاثة أشهر على الأقل، حتى لا يُمارس المرء نقداً ذاتياً على ما يراه من أفكار مكتوبة في الصباحات العكرة، أو خلال الأيام العصيبة.
ما الجدوى من كُل ذلك؟ سيما لو لم أكن فناناً!
صحيح أن الكتاب كان موجه في بادئ الأمر للمُبدعين دون غيرهم، لكن مع كثرة التجارب الكتابية للأشخاص العاديين أيضاً تيقنت الكاتبة جوليا كاميرون بأن تكنيك صفحات الصباح سيكون مُفيداً للجميع!
ومن الفوائد التي تفرضها الكتابة لصفحات الصباح:
أنها تساعدنا على أن نفكر بشكل إبداعي، وأن نبتكر حلولاً أكثر إبداعاً لمُشكلاتنا الحياتية اليومية. تخفف الصراع النفسي فيُصبح الفرد مستعداً لأي تغيير مفاجئ يحدث في يومه برحابة أكبر.
كتابة صفحات الصباح تُعد بمثابة فُرصة للتفكير بصوت عالٍ في مساحة آمنة، إذ تسمح لك بالإفصاح عن آلامك دون الشعور بالضعف، وتمنحك أيضًا قدرًا من الشجاعة لطرح الأسئلة الوجودية التي قد تراود المرء، ولا يجرؤ على البوح بها للآخرين، كما تساعد على استحضار المُرشد الداخلي.
تساعدنا على التحرر من العادات السلبية الصغيرة التي نوينا التحرر منها عشرات المرات! وتحررنا أيضاً من المخاوف التي قد تبدو صغيرة وتافهة لكنها مُعيقةٌ أيضاً!
لدى كل منا أفكار تعاد كأسطوانة مشروخة وكتابة الصفحات تساعد في كسر رتم هذه الأفكار وتغييرها المساعدة في استقبال اليوم برحابة أكبر وإيجاد حلول جديدة للمشكلات القديمة. السماح للأصوات الداخلية أن تعبر عن نفسها "وصدقني قد تُدهش لوجود جوانب تكاد لا تعرفها من شخصيتك" مما يخفف من النزاعات الداخلية التي تحدث بداخلنا في كثير من الأحيان دون أن نعرف مصدرها.
وأخيراً تعدنا الكاتبة بقليل من المُعجزات والتجليات الصغيرة والهدايا الكونية التي ستغمرك فور الانتهاء من المهمة التسعينية، ورغم أن ذلك قد يبدو ضربًا من الجنون إلا أن تجربتي مع صفحات الصباح كانت فعلاً عجيبة! اكتشفت من خلالها الكثير عني! وكانت بمثابة رفيقٍ يُتقن فن الاستماع خلال رحلتي مع التشافي!
وما زالت حتى يومنا الملجأ الأول الذي أهرع له من ثقل المشاعر، وازدحام الأفكار.