خلال مسيرتي المهنية في المجال الإبداعي، وتحديدًا مجال صناعة المُحتوى، ومع انغماسي في المجتمعات المهتمّة بالمهارات الفنيّة والإبداعية، وبعد مُحادثات ومناقشات طويلة عن مفهوم الإبداع والإبتكار خاصة في المجتمعات الليبية، تكوّنت في بالي بعض الأسئلة الّي خلتني نبحث بتعمّق على هذه المفاهيم والرجوع إلى أصولها الأولى لمعرفة ما إذا كانت مفاهيمنا الحالية صحيحة أم أنها مفاهيم متأثرة بعامل الحداثة والتطوّر التقني وتشبع شبكة الإنترنت بالمُحتوى النصي والبصري الموثوق وغير الموثوق وحرية استخدام هذه التقنيات من قِبل الجميع في ظل عشوائية الشبكة العنكبوتية.. ضمن كُل هذا تتخبّط بعض المفاهيم بين الألف والياء وتفقد معناها ومضمونها، يُساء فهمها وقد يتم تشويهها حتّى، إلى أن تصبح حقيقتها خفيّة، لا يجدها إلا من يبحث عنها.
هل عمرك سألت نفسك شن معنى كلًا من: الإبداع والإبتكار والفن؟ شخصيًا، سألت نفسي، ولقيت إجابات مبدئية لأسئلتي، ولكن قارنت بين الحقيقة.. والواقع! ولقيت ان في عناصر "مفقودة" في مجتمعاتنا ونظريّات أساسية لا يؤخذ بها، بوجود هذه العناصر حيكتمل المعنى ولربّما حيساهم في النهوض بالحركة الإبداعية والفنية عندنا وحيبث فيها الروح من جديد ويصلّح من مفهومها.. وهنا نوصلوا لأسئلة عديدة ثانية مُهمة جدًا ومنطقية:
هل تقدر "تتعلّم" تكون مُبدع وفنّان؟
من بديهيّات العمل في المجال الإبداعي والفنّي انّك تكون شخص مُبدع، ولو تبي تنغمس في سوق العمل الإبداعي وتنافس الموجود.. لازم تطمح انّك تكون الأكثر إبداعًا، ولكن.. هل ممكن تتعلّم كيف تولّي مُبدع من كتاب يحوي 400 صفحة؟ أو مقال لا يتعدّى الـ600 كلمة، أو حتّى كورس تدريبي مكثف عن كيفية اكتساب مهارة الإبداع؟
الإبداع هو أسلوب حياة، الإبداع والإبتكار هي بالتأكيد أساليب حياة، الفن هو أسلوب تعبير ممزوج بالكثير من الإبداع، الإبداع في حد ذاته لا يمكن تعليمه، ولكن.. هو مهارة موجودة داخلنا يمكن أن يتم تطويرها وتنميتها، هو ببساطة عبارة عن سلسلة من البكرات الموجودة داخل عقلك.. موصولة ببعضها البعض وتتحرّك لتنتج فكرة، الإبداع شيء ينمو داخلك ويتأثر بمحيطك من يوم ولادتك إلى يومنا هذا، وتقدر تلقى الإبداع في نفسك لما تفتح عيونك على مهارات جديدة، وتتدرّب على هذه المهارات بهدف تنمّي من القدرة الإبداعية عندك.
ماعمركش سألت نفسك، كيف مُمكن حتتأثر قدراتك الإبداعية بالتدرّب على التفكير النقدي ورؤية الأمور من منظور مختلف؟ أو كيف حتكون النتيجة لو واضبت على تعلّم مهارة حل المشاكل وربط الأفكار ببعضها لإنتاج حل جديد ومبتكر؟ أو حتّى كيف حتساعدك مشاهدة الأعمال السينمائية وقراءة الكتب على تنمية مهارات التفكير الإبداعي والتصميمي عندك؟ اه.. عمرك فكّرت تعرف شن التأثير الي تديره طريقة توزيع العناصر في أي تصميم على عينك؟ وهل طريقة توزيع العناصر ليها دور في أن التصميم يلاقي استحسان عينك.. أو يستفزها؟
هذه المهارات هي جزء من الأدوات الأساسية الي حتخليك تقدر تبدع وتبتكر، لأنها ببساطة قادرة على برمجة عقلك وتسخيره وتوجيهه خلال المسار الإبداعي، بالمهارات هذه حتقدر تصقل "الإبداع" الي موجود في عقلك، وأيًا كانت طرق العرض.. سواء نص مقالي، رواية، سيناريو، فيلم، فيديو دعائي، أو أي قطعة مُحتوى.. أيًا كانت الطريقة.. يبقى الإبتكار أسلوب حياة واحد يحافظ عليه الشخص المُبدع ويعمل على تطويره.
عندك علم أن الإبداع صُنّف على انه العامل الأهم للنجاح في المستقبل، وتم تفضيله عن الاج تهاد والانضباط!
هل يصنع النقد المبدع؟
التجربة والتقييم والنقد هم احدى أساسات العملية الإبداعية، لا يكتمل العمل الإبداعي أيًا كان إلا بممارسة النقد وتحديد مواضع القوة والضعف في هذا العمل، بالنقد نقدروا نطلعوا بأحسن صورة للعمل، لأن النقد يفسح المجال لمتلقّي المادة الإبداعية أن يحكي تجربته الخاصة أثناء قرائته أو مشاهدته للعمل، هكّي حتقدر تعرف نتائج التجربة وتخدم على تطوير عملك الإبداعي وفلترة ما يمكن فلترته. هل يقدر أي حد ينتقد؟ حقيقةً، النقد عادةً يتطلّب مؤهلات أكاديمية أو معرفة واسعة بالمجال وإطّلاع كبير على مختلف الأعمال الإبداعية ليكون مكمّل ومساعد أوّل للمبدع ليصبح المرآة الي حتعكس تأثير العمل الإبداعي.
قلت في مطلع هذه الجزئية ان الإبداع لا يكتمل إلا بوجود النقد.. أمّا النقد فلا يكتمل إلا بوجود الشفافية! يُطرح النقد في قالب شفّاف وموضوعي مبني على أسس وتجربة حقيقية ليكون هدفه الإعانة والتطوير لا التنفير، فبهذا يتقبّل المبدع ما يُطرح عليه من نقد، ويفيد الناقد غيره بما يرى من منظوره الشخصي للعمل. وماننسوش أن الذوق له دور في النقد، وان الأذواق تختلف، وأن للذوق العام دور أيضًا، وأن المبدع ونظرته للفن قد تكون -وهي كذلك في أغلب الأحيان- مختلفة عن الذوق العام ولها طابع خاص ومميّز، وللمُبدع التزامات كما للناقد التزامات، فالشفافية المتبادلة تصنع ثقافة التقبّل بين الطرفين والعدل في التصنيف والتقييم. ولأن النقد هو فن يميّز كل مُبدع عن غيره، وقادر على تصنيف الأساليب وفهمها والتعرّف على المادة الزائفة، فهو عنصر أساسي في صُنع المبدع وصُنع أسلوبه، وصقل مهارته.
الإبداع أكبر وأعمق من أنك تتعلّمه في أسبوع، وفي الحقيقة.. الإبداع أعمق من انّك "تتعلمه"، التفكير الإبداعي والنقدي، التفكير المنطقي واللامنطقي، المهارات، الجودة، الخيال الواسع، البحث والفضول والشغف، كُل هذه العناصر مُجمّعة تصنع المُبدع منذ الصغر، وأشدد على مصطلح "تصنع المبدع"، لأن المُبدع يُصنع ويُبنى ثم ينمو.