رغم تنقلي مع عائلتي لسنوات عدة، ودراستي في الخارج، قُدر لي أن أقضي بعض من مراحل تعليمي في ليبيا، تجربة حقاً لا تنسى، ورغم مميزاتها وذكرياتها الرائعة، عشت بعض التجارب التي قادتني إلى كتابة هذا المقال.
في تلك السنوات المعدودة، خضت تجربة التعليم العام والخاص في بلادي، وعلى اختلافهما في العديد من الجوانب، جمعتهما ظاهرة واحدة، التعنيف الجسدي واللفظي كوسيلة للتأديب والعقاب!
لن أنسى أبداً ذلك اليوم، عندما طلبت مديرة المدرسة رؤيتي في مكتبها بعدما ضبطتني أمضغ العلكة في ساحة المدرسة عبر الكاميرا، فور دخولي لمكتبها، توجهت المديرة نحوي بسرعة، حاملة معها صفعات لم أنساها حتى يومنا هذا، صفعة تلو الأخرى، يمين ويسار، إلى أن انتهي بي المطاف في غرفة الطوارئ بأنف نصف مكسور، كل هذا بسبب علكة.
لم أنس أبداً المشهد الصباحي المعتاد، حيث تقف المديرة أو إحدى المعلمات أمام التلاميذ وهي تعطي "الفلقة" للتلاميذ المشاغبين، ولمن لا يعلم ما هي الفلقة، هي عقاب يجرد فيه الطالب من الحذاء والجوارب، فيما تقوم المعلمة بضربه على قدميه بقطعة خشبية، إلى أن يغطي صياح الطالب المدرسة بأكملها.
في أولى سنوات تعليمه الثانوي، درس أخي في مدرسة حكومية للبنين، قرر أبي أن يعيش ابنه القليل من التجربة الليبية الحقيقية، ولكنه سرعان ما ندم على قراره، ففي أول أسبوع له، تعرض أخي للضرب المبرح من معلميه على ظهره ومختلف مناطق جسده، وقام أحد المعلمين بإغراق رأسه في سطل من الماء البارد، والغريب في الأمر، أن كل هذا العنف كان لأسباب تافهة، كالتأخر عن الحصة، أو اللعب بطريقة عشوائية في أوقات الاستراحة، لم ينته الأسبوع، قبل أن ينتقل أخي لمدرسة خاصة، حيث مورس التعنيف أيضاً، ولكن بطرق أقل خطورة.
رغم تقدم العلم، ووسائله في العالم، وتطور المدارس وطرق التربية، لايزال تعنيف الطلبة في بلادي واجهة تقف على أبواب المدراس، العامة منها والخاصة. فهل يعلم هؤلاء المعلمين خطورة تعنيف الأطفال والمراهقين، وبأي طريقة ستؤثر هذه الوسيلة في تشكيل شخصياتهم واختياراتهم المستقبلية، كيف لهم لا يعلمون؟
دع ونا نتحدث عن الجانب النفسي والعلمي الذي تسببه هذه الحقيقة البشعة.
- يقول العلماء إن العنف المدرسي، يولد سلوك العنف للطفل، فلكل فعل ردة فعل مشابهة، حيث يتحول ذلك الطفل إلى طفل ومراهق عنيف وعصبي، يمارس العنف على من هو أضعف منه، من زملائه في الدراسة، أو أبناء الجيران، أو حتى إخوته، ولا يقتصر هذا على التعنيف الجسدي فحسب، بل اللفظي أيضاً.
- رهاب الذهاب من المدرسة: إذ عندما تتحول صورة المدرسة عند الطفل من مكان للتعلم واللعب واكتشاف الحياة، إلى سجن يعاقب فيه على أتفه الأشياء، يتكون لدى الطالب رهاب الذهاب إلى المدرسة والتعلم، وهنا تكون قد كونت جيل يكره التعلم أيها المعلم الفاضل.
- التعنيف المدرسي وخاصة المبكر، يكون أنواع عدة من الاكتئاب الذي قد يصاحب الطالب طوال حياته، إضافة إلى بعض المشاكل الأخرى كالتبول اللاإرادي، والانطوائية.
- أثبتت الدراسات أن معظم المجرمين والقتلة، والخارجين عن القانون عانو بطريقة أو بأخرى من التعنيف الجسدي واللفظي في مراحل الطفولة والمراهقة، فالعدائية تولد العدائية، وإن كان دافع الأستاذ في تلك اللحظات هو التربية إلا أنه يقوم بتجهيز وتدريب مجرم مستقبلي، وأكبر دليل على هذا هو ما نشهده هذه الأيام في ليبيا، حيث تعم الشوارع المليشيات، والخاطفين والمتحرشين، الذين تركوا الدراسة متوجهين للأزقة، بعدما تم تجهيزهم حرفيا في المدارس لإرهاب المدينة.
منذ سنوات قليلة، نشرت اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا، تقرير خاص يحذر من ظاهرة العنف المدرسي في البلاد.
وقالت المنظمة الدولية، إن حالة من الكراهية للمدرسة والدراسة، سادت بين الطلاب، خاصة الصغار منهم، بسبب لجوء المعلمين والمعلمات إلى العنف الجسدي واللفظي كوسيلة للتربية، بدلا عن تطوير فكرهم، وأكدت المنظمة، على أن بقاء الحال كما هو يعود إلى غياب واضح للقوانين المحلية التي تحمي الطالب وتجرم مثل هذه الأفعال.
في الوقت الذي تحاول فيه الحكومات في ليبيا، فرض حالة الاستقرار والارتقاء بالبلاد، لم تلتفت هذه الجهات إلى الحجر الأساسي لبناء دولة عصرية متقدمة، الحجر هنا هو التعليم، فكيف لك أن تبني مجتمعاً طيباً متعلماً، قادراً على تخطي التحديات، والتوقعات.
بهذه الحالة الدراسية المتدنية، هل حقاً يعتقد هؤلاء أن ليبيا ستقام بأطفال يواجهون التعنيف كل يوم في المدارس، يتلقون الصفعات أكثر من المعلومات ، هل حقاً يتوقعون أن يتقبل الطالب معلومة قيمة من أستاذ قام بضربه قبل دقائق.
الأجيال القادمة تربى اليوم في المدارس، تتلقى ما ستمنحه لبلادها بعد سنوات قليلة، لهذا، وبينما تناقشون مستقبل ليبيا في الجلسات الدولية، والجمعيات الأممية، التفتوا لمستقبل الدراسة في ليبيا، فهنا المعادلة الصعبة، وهؤلاء هم قادة ليبيا المستقبل، وهنا تظهر حقاً الوطنية الحقيقية.