اسطنبول حيث يُحكى كل شيء، في المدينة التي تُجيد حماية دهشتك بتفاصيلها الأخاذة جامعةً بين الحداثة الغربية والأصالة الشرقية العريقة، تلك المدينة التي نفخت أيضاً من سحر روحها في حواري ضواحيها البسيطة.
المدينة التي سنرى تفاصيل وجهها الحقيقي بعيون المخرج "بيركون أويا" الذي أجاد خلق صورة بعيدةٍ كُل البُعد عن معالم المدينة السياحية المُستهلكة سينمائياً، ولتكتمل مثالية الصورة سنجد أنفسنا أمام قصة هاربة من إطار السرد النمطي الذي يقْصر الدراما التركية على قصص الحب الضائع والأساطير العثمانية القديمة.
مسلسل طيف اسطنبول الذي أثار جدلاً واسعًا بين أطياف المجتمع التركي على مواقع التواصل الاجتماعي، والذي يسلط الضوء على قضايا هامة منها المشكلات النفسية والعلاج النفسي، الإسلاموفوبيا، صراع الدين والعلم، الاغتصاب، الانتماء الكردي، وحتى اضطرابات الميول الجنسية.
وتحكي قصته عن "مريم" وهي شابة تركية بسيطة كادحة، تعاني من اضطراب لا تعرف ماهيته ولا أسبابه، يتمثل في فقدانها الوعي بشكل فجائي، تباشر مريم التردد على دكتورة نفسية "بيري" حُولت لها بعد أن فشل الطب العضوي في تشخيص حالتها.
في المشهد الأول نرى بطلتنا تسير بخطى ثابتة لتشق طريق قريتها الضبابي، لتنقلنا خطواتها فنراها تعبر الجسر، الذي يصلها بدوره بالوجه الآخر من المدينة، ومن هنا تحديداً تبدأ رحلتنا مع الثنائيات..
.عالمان يمثل كلٌ من ها فصيلاً من فصائل المجتمع التركي الهجين العالم المتمدن المتعلمن يمثل فيه القطب الأول
vs العالم القروي البسيط المتشبث بالعرف والدين يمثل قطبه الآخر.
أوجه السرد المتباين
الأصوات السردية المُتقنة في السيناريو تثبت جدارة مخرج العمل على الكتابة، حيث برع بيركون أويا بتوريط مخيلته مع شخوص حكايته بشكل سيوقعك حتمًا في فخ التصديق والتعاطف.
ويُسرد جزء من الحكاية في القرية، القرية الرازحة تحت رحمة المعتقدات الدينية، حيث تُؤطر كل المشاكل النفسية بإطار التسليم فتحال جميعها لسبب واحد وهو البعد عن الله ويبدو ذلك جلياً في المشاهد التي نرى شيخ القرية يمارس سطوته فيها على مريديه ناصحاً إياهم مستدلاً بمثاله الوحيد المُناظر بين أزهاره البلاستيكية وزهور الرب الحقيقية البديعة
.
كما سنعيش مع "ياسين" الذي ناب جهله عن عقله في اتخاذ القرار بالتعافي من المشاكل النفسية التي تُعاني منها زوجته "روحية" بالطريق الروحي الديني حصراً."
روحية" غصة آلام الطفولة العالقة في الحلق أبداً
وجهها الهائم، بملامحه المكسوة بالبؤس، بالحزن العميق المتسرب من عينيها، وأثار محاولات الانتحار التي غطت جسدها المُكبل بآلام الماضي، تمثل م جتمعة صورة مألوفة في مجتمعاتنا العربية للمرأة المحرومة من حق العلاج النفسي، وشخصياً اعتبر حكاية روحية أكثر الحكايا تأثيراً إذ تضرب قصتها عصفورين بحجر واحد، فتعالج من جهة مسألة التعرض للاعتداءات الجنسية في مرحلة الطفولة، وتتناول الجانب المتعلق بتعرضها لمشكلات نفسية وحرمانها من العلاج من جهة أخرى.
روح حرة يكبلها العرف والنسب
وجه آخر من وجوه القرية تخفي قسماته البريئة قصةً مثيرةً جدًا للاهتمام، أحدثكم عن وجه "خير النساء" بعينيها اللامعتين اللتين تعكسان توق الفتاة الشابة لنمط حياةٍ حرمها منه نسبها، فما الصورة التي يتوقع أن تكون عليها ابنة شيخ جامع القرية، غير الصورة المُثلى للفتاة المُسلمة المُحجبة بالضرورة؟
في واحدٍ من أكثر المشاهد تأثيراً نرى فيه خير النساء بعيد توديع أهلها، تمسك أحمر شفاهها الوحيد بلونه القرمزي الصارخ وتتخيل
نفسها أمام المرأة والحمرة تكسو شفتيها، ثم ترتدي السماعات، لتنقلها الموسيقى الصاخبة للعالم الذي ترى نفسها فيه، حُرةً من كل القيود التي فرضها عليها سقف التوقعات العالي، والأعراف.
وأخيراً بطلتنا "مريم"، شابة مُستقلة تتمتع بقدر عالي من الذكاء الفطري، بعقلها الفضولي المتسائل، وروحها الطيبة، وشخصيتها القوية الخدومة، ممثلةً حلقة الوصل بين العوالم المختلفة في الحكايا، إذ تنطلق كُل صباحٍ من القرية في رحلتها لكسب العيش فتعمل في تنظيف المنازل الكائنة في قلب المدينة مُحتكة بأشخاص مختلفين، ينتمون للوجه الآخر لإسطنبول.
معالجة درامية ذكية للإسلاموفوبيا
"بيري" مثلاً هي واحدة من تلك الشخصيات التي تمثل الضد المتطرف ، وهي الطبيبة النفسية التي تباشر مريم جلساتها العلاجية معها ، بيري المرأة البرجوازية المعاصرة ابنة اسطنبول المتيمة بالحداثة الغربية ، التي تقضي معظم إجازاتها في أوروبا ، تمثل الوجه المشوه للإنسان المتعلمن المتعالي الذي يمارس التمييز على غيره من الأطياف ، غير الواعي بقصر نظرته للأمور من حوله والتي تُثقل مريم. بافتراضاتها وأحكامها المسبقة من اللمحة الأولى لحجابها، وتعترف بذلك صراحةً لطبيبتها النفسية "غوبلين" بفوبيا الحجاب التي ورثتها عن والدتها التي كانت تزدري عاملات التنظيف لمجرد كونهن محجبات!
"غوبلين" واحدة من الشخصيات الأساسية في المسلسل أيضًا، إذ تعكس لنا صورة العديد من النساء الاسطنبوليات اللاتي اخترن سلك نهج يختلف عن الذي تنتهجه عائلاتهن في الحياة، ونرى ذلك جليًا في أحد المشاهد الذي تتقاذف فيه التهم مع أختها المتدينة المهووسة بتطويع محيطها، والتي تؤثر أن تعالج أخيها المريض بالدعاء والقرآن على أن تُخضعه للعلاج الدوائي.
وجاء المسلسل كصفعة قوية للطبقة البرجوازية المتعلمنة التي تنظر بعين الازدراء لكل المحافظين وتمارس فوقيتها السطحية على
البسطاء تحديداً، جاء طيف اسطنبول مفككاً للعديد من المفاهيم التي تبناها المجتمع التركي بوعيٍ أو دون وعي، مبينًا هذا الشرخ الثقافي الواهي الذي يصر المجتمع على التشبث به.
طرح غير مسبوق
من المشاهد الذكية التي يمكنني أن استدل بها على شيطانات الكاتب وبراعته، تلك التي يُجسد فيها "لعبة تبادل الأدوار" بين الشخصيات الرئيسة، إذ نرى بيري ابتداءً تُجالس مريم بوصفها معالجةً نفسية، ثم نراها تجلس على أريكة التشخيص إذ تخضع لجلسات بوح مع طبيبتها غوبلين، وأخيراً نرى الأخيرة تبوح لصديقها سنان بشكل لا يختلف ك ثيراً عن ممارسة الثانية في جلسات علاجها.
من الأمور المثيرة للاهتمام أيضًا بشأن المسلسل أنه سلط الضوء على مسألة هامة وحساسة في تركيا وهي مسألة الوجود الفعلي للكيان الكردي الذي كثيرًا ما يُنتهك حقه في التعبير عن أصالة وتفرد وجوده، التعبير عن شعور الأكراد بعدم الانتماء، ولو بشكل خاطف وغير مباشر إلا أني رأيت فيه لفتة هامة واعترافًا ضمنيًا من المخرج بوجود الكيان الكردي.
وأخيرًا فإن المخرج والكاتب نجح في أن يوقعنا جميعًا في فخ الحكم المسبق على شيخ القرية، الذي صدمنا بانفتاحه وتقبله لحقيقة ابنته في المشاهد الأخيرة من المسلسل.
السينماتوغرافي
روح المدينة كانت فع لًا حاضرة وبقوة في المشاهد البعيدة الواسعة خصوصًا، مشاهد الزحام الغفير، والمشاهد التي صورت باصات إسطنبول الشهيرة المُغرقة بالحكايا المتباينة لشتى صنوف البشر الرُكاب، مشاهد مسجد القرية كانت عظيمة جدًا أيضًا، وكذلك التصوير الخارجي لمنزل مريم.
وعمومًا فإن التغذية البصرية كانت ثريةً وساحرة جدًا، والمشاهد الصامتة جاءت كلوحات فنية تعبر فيها الصورة بشكل أبلغ من الكلام، بل ويمكنني القول بأن عنصر التصوير البصري وحده يشكل دافعًا كافيًا لمشاهدة المسلسل.
ومن المُحزن والغريب جدًا أن نيتفلكس لم تسّوق له بشكل منصف، على خلاف ما اعتدنا عليه منها من براعة ترويجية!
ختامًا إن مسلسل طيف اسطنبول هو تحفة فنية مؤثرة ومتكاملة الأركان، ولا عجب أنه قد نال تقييم 8.6 من أصل 10 على منصة
IMDb.